مسجد العيدروس في عدن مُزينا بالأضواء 11 نوفمبر 2022 (مركز سوث24)
27-11-2022 الساعة 4 مساءً بتوقيت عدن
سوث24 | عبد اللطيف سالمين
في منتصف القرن الخامس عشر للميلاد، قدم إلى عدن الشيخ الصوفي الشهير أبو بكر بن عبد الله العيدروس، من حضرموت. حظي العيدروس آنذاك باحتفاء شعبي كبير من سكان عدن ذي الغالبية الصوفية، نظراً لما عُرف عن الرجل من العلم والدين، والاستقامة، وأعمال الخير، والإغاثة.
ومن مظاهر الاحتفاء بالعيدروس في عدن، بدأ السكان في القيام بزيارات جماعية للشيخ الذي يُنظر إليه كـ "ولي" على نطاق واسع من قبل العامة. استمرت الزيارات بشكل منتظم طيلة فترة حياته، ولم تنقطع حتَّى بعد الممات حيث يُزار ضريحه الكائن في المسجد الذي بناه وسمي باسمه بمنطقة كريتر، بشكل سنوي.
زيارة العيدروس قديما بعدن مطلع القرن التاسع عشر، كتاب "زوايا من تاريخ وطن وحكاية إنسان" - بلال غلام حسين (الأرشيف البريطاني)
على مدى عقود لاحقة، تحوَّلت زيارة العيدروس إلى تفصيل مهم في تاريخ عدن وجزء من تقاليدها وعاداتها، كما ساهمت في رسم الاتجاه الإسلامي الصوفي لدى السكان بالمدينة التي امتازت بتركيبة اجتماعية وعرقية ودينية شديدة التنوع والتعايش في آن واحد.
واشتملت زيارة العيدروس على مظاهر اجتماعية عديدة مثل التكافل ومساعدة المحتاجين وطلاب العلم، كما كانت تتمتع بخصائص "الأعياد" الدينية في عدن حيث يرتدي السكان حللا جديدة تليق بمقام الشيخ وذكرى قدومه المميزة من حضرموت الواقعة إلى أقصى الشرق من جنوب اليمن.
وكانت الاحتفالات ترافق الشعائر الصوفية التي تقام في يوم الزيارة، في الليلة التي تسبق الزيارة من الساعة 10 مساءاً وحتَّى 3 فجرًا. كانت الكسوة تُحضر إلى مسجد العيدروس في يوم الزيارة، ترافقها التواشيح الدينية وتتقدمها فرقة موسيقية وسط رقصات يؤديها الزوار خصوصاً أولئك القادمين من الأرياف القريبة.
كسوة زيارة العيدروس بعدن منتصف مطلع القرن التاسع عشر، كتاب "زوايا من تاريخ وطن وحكاية إنسان" - بلال غلام حسين (الأرشيف البريطاني)
يستذكر المؤرخ العدني بلال غلام بعضاً من ذكريات زيارة العيدروس التي حرص السكان عليها، بمن فيهم النساء والأطفال.
وقال غلام لـ "سوث24": "كانت أياما جميلة. لا زلت أتذكر وجبة (الهريس) التي كانت تحضَّر ليلة زيارة العيدروس بكميات كبيرة لسكان عدن والوفود القادمة من خارجها. كما أتذكر أيضاً الألعاب الشعبية التي كانت ترافق الزيارة."
الألعاب المصاحبة لزيارة العيدروس بعدن في القرن التاسع عشر، كتاب "زوايا من تاريخ وطن وحكاية إنسان" - بلال غلام حسين (الأرشيف البريطاني)
وعن الحدث الأهم في الزيارة، قال غلام: "كان يتمثَّل في المشي خلف الكسوة والبيارق التي يحملها الناس وهم يرددون الأناشيد على طول شارع العيدروس في كريتر. كل هذه الأشياء كانت بمثابة عيد لسكان المدينة، لكنها غابت في زمننا الحاضر."
ولم تتأثر زيارة العيدروس كثيراً بالاستعمار البريطاني لعدن الذي بدأ في 1839، حيث ترك الإنجليز هامشًا كبيراً فيما يتعلق بالحرية العقدية والدينية، لا سيَّما أنَّ عدن احتضنت ديانات وطوائف عديدة مثل المسيحية واليهودية والهندوسية والبهائية وغيرها، بالإضافة للطوائف الإسلامية المختلفة.
كما حافظ السكان على تقاليد زيارة العيدروس في عهد دولة جنوب اليمن بعد الاستقلال عن بريطانيا في 1967، في ظل النظام الاشتراكي قليل التوجس من النشاط الديني الصوفي. ولكنَّ الحال تغير تماماً بعد توقيع اتفاقية الوحدة اليمنية مع شمال اليمن في مايو 1990، واجتياح الجنوب في عام 1994.
مسجد العيدروس في عدن من الخارج 18 نوفمبر 2022 (مركز سوث24)
تغيير الهوية
بعد اجتياح عدن والجنوب في صيف يوليو 1994، بدأ الطرف الشمالي المنتصر في تثبيت نظام تتقاسمه القبائل والتيارات الإسلامية السياسية. لقد أسند الجانب الديني في البلاد للتجمع اليمني للإصلاح، فرع التنظيم العالمي للإخوان المسلمين، الذي ضم في صفوفه بعض قادة الجهاد الأفغاني وحركة الجهاد العالمية.
شن الإصلاح وبعض التيارات المتشددة بما في ذلك تنظيم القاعدة حربا على الهوية الدينية للجنوب بشكل عام وعدن بشكل خاص، ارتكزت على طمس ومحاربة المذهب الصوفي وكل ما يرتبط به من مقامات ومساجد وأضرحة وقباب، تارة بالعنف والقوة، وتارة أخرى بالترغيب والغزو الفكري للأوساط المجتمعية البسيطة والمسالمة.
عمد حزب الإصلاح إلى تغيير أسماء المساجد الصوفية وطمس معالمها عبر أعمال الترميم التي كانت تتم بشكل رسمي وبإشراف وزارة الأوقاف والإرشاد التي كانت من نصيب الحزب بعد الوحدة اليمنية. كما حرص الحزب على تشديد وتغليظ الخطاب الديني تجاه المظاهر الصوفية ووصمها في أحيان كثيرة بـ "الشرك وعبادة الأصنام."
مسجد "أبان" في كريتر، الذي ترجّح مصادر تاريخية أنَّه بُني في أوائل القرن الثامن للميلاد، كان أحد المساجد التي تعرضت لطمس الهوية في عدن.
لقد تعرض هذا المسجد التاريخي لإعادة البناء في تسعينيات القرن المنصرم بتمويل من مجموعة "هائل سعيد أنعم" التجارية التي حظيت بعلاقات قوية مع النظام الحاكم. تمَّت إزالة المبنى التاريخي بنمطه المعماري المنتمي لعمارة الحضارة الإسلامية، واستبداله بنمط معماري معاصر.
وتعرَّضت عشرات المساجد الأخرى في عدن إلى أعمال مشابهة، فضلاً عن المعالم الدينية غير الإسلامية التي كانت أشد تضرراً. وكان "سوث24" قد رصد في تقرير بعض هذه المعالم البارزة وما تعرَّضت له، ووضعها اليوم.
اقرأ المزيد: كيف ساهمت سياسة السلطات المتلاحقة بالقضاء على التنوع الديني بعدن؟
وعلى الرغم من موجة التغيير والطمس هذه، حافظت بعض المساجد في عدن على هويتها وتعسر الاقتراب منها، مثل مسجد العيدروس في كريتر. ولكن زيارة العيدروس لم تكن بمعزل عن هذا كله، فقد شهدت انحسارا كبيراً وفقدت رمزيتها الشعبية وسط الضخ الهائل للخطاب الديني المتشدد والمتطرف.
زيارة العيدروس في عدن 11 نوفمبر 2022 (مركز سوث24)
ونتيجة لهذا الخطاب الذي ترسخ بدعم مطلق من نظام الوحدة، تكون مزاج شعبي منقاد في كثير من الأحيان لدعوات التطرف في عدن التي تعتبرها الحركة الجنوبية التحررية الساعية لاستعادة وضع ما قبل 1990 صوراً من صور "الاحتلال الشمالي" للجنوب، ومظهرا من مظاهر الحرب الشاملة على هويته، وتاريخه، وخصائصه المجتمعية، والثقافية.
امتداد التطرف
على الرغم من مرور أعوام على إنهاء السيطرة العسكرية الشمالية على عدن وأجزاء واسعة من جنوب اليمن، في 2015، لا زالت المخاوف بشأن الخطاب الديني المتشدد في ذات المستوى، لا سيَّما مع تصدر شخصيات جنوبية سلفية هذا الخطاب.
ويمثل الموقف السلفي من زيارة العيدروس في عدن أحد المؤشرات المهمة على استمرارية المشكلة حتَّى مع انهيار نظام الوحدة وانحسار نفوذ حزب الإصلاح في المدينة. وأعادت خطبة دينية لشيخ سلفي يوصف بقربه من المجلس الانتقالي الجنوبي هذه المخاوف مجدداً إلى الواجهة.
مسجد العيدروس في عدن من الداخل 18 نوفمبر 2022 (مركز سوث24)
وقبل أيام من موعد زيارة العيدروس، التي عقدت في 11 نوفمبر الجاري، نشر الشيخ "منير السعدي" خطبة له على صفحته في فيسبوك بعنوان "قبر العيدروس وثن يعبد"، حث فيها على هدم ضريح العيدروس ومنع زيارته السنوية. أثارت هذه الدعوات جدلا واسعا، واعتبرت امتدادا لنهج نظام الوحدة الذي ناضل السعدي ضدَّه خلال الأعوام الأخيرة.
وحاول مركز "سوث24" التواصل مع الشيخ منير السعدي للاستفسار منه حول خطبه الأخيرة، إلا أنَّنا لم نتلق رداً حتَّى الآن. وتعليقا على خطبة السعدي، قال مدير الفكر والإرشاد بالمجلس الانتقالي الشيخ محمد رمزو لـ "سوث24": "دعوات السعدي قد تكون ناتجة عن تسرع بالحكم على الزيارة، مع احترامي لمواقفه المشرفة تجاه قضية شعب الجنوب."
وأضاف: "الشيخ السعدي نقل عن شخص قوله إن من يقومون بزيارة العيدروس يعتقدون بأنَّه أتى لهم وقت الضيق والهلاك بعد ما نادوه وأنجدهم. هنا نقول له إنَّ هذا ليس له أساس من الصحة والأحكام لا تبنى على قول فلان وعلان، ولا يجوز أن نطلق الأحكام ونصدرها على الناس جزافاً، ونتهم بالكفر والشرك وهو أمر لا يجوز."
وحذَّر رمزو من الخطب والفتاوى التكفيرية المدمرة، مذكر بالحديث النبوي الذي يقول: "(أجرؤكم على الفتوى أجرؤكم على النار)." ولفت إلى أنَّ بعض رجال الدين يسقطون الآيات الخاصة بمن كانوا يعبدون الأصنام في عهد النبي محمد على من يزورون القبور والأضرحة من المسلمين.
جلسة علمية في مسجد العيدروس بعدن 18 نوفمبر 2022 (مركز سوث24)
وأضاف: "هذا خاطئ، لأنَّ عبادة الأصنام شيء وزيارة القبور شيء آخر فعبادة الأصنام شرك منطلق من الآية: (إنَّ الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)، وزيارة القبور سنة للحديث الشريف الذي جاء فيه: (كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكركم بالآخرة)".
وأردف: " قد تقع الأخطاء من قبل بعض عامة المسلمين ممن يقومون بهذه الزيارة كأن يتمسحوا بالقبر أو يأكلون طين أرضية القبر معتقدين أنَّها تنفع، فهؤلاء جهلة يجب نصحهم وتنبيههم بأنَّ النافع والضار هو الله فقط، والقاعدة الفقهية تقول: (الجاهل بالحكم كمن لا حكم له). هنا يأتي دورنا بأن نبين لهم الحكم الشرعي من منطلق الآية :(أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة)."
وأشار رمزو إلى أنَّ المجلس الانتقالي الجنوبي "يوجه بتبني الخطاب الديني المعتدل، كموقف يأتي من نبع الإسلام الصافي." وأضاف: "بعد الخطاب التحريضي الأخير على فعالية العيدروس قمت بالنزول الرسمي إلى مدير أوقاف عدن ونبهته إلى أنَّ مثل هذه الدعوات المُحرضة على هدم معالم المدينة ورمي الناس بالشرك والتكفير قد تؤدَّي إلى فتنة عظيمة واقتتال بين فرق المسلمين."
وشدد رمزو على أنَّ "إدارة الأوقاف والإرشاد في عدن عليها الوقوف بحزم أمام أي خطابات متشددة، وأن تولي اهتمامها بخطباء المساجد وأئمتها وأن تؤهلهم تأهيلاً شرعياً على المنهج الوسطي المعتدل."
وزارة الأوقاف والإرشاد
في حديث خاص لـ "سوث24"، استنكر وزير الأوقاف والإرشاد اليمني الدكتور محمد عيضة شبيبة "استغلال المنابر لتكفير الآخرين وإخراجهم من الملة وما يترتب على ذلك من استحلال النفوس وسفك للدماء."
وقال الوزير بحكومة المناصفة بين جنوب اليمن وشمال اليمن: "نحن في الوزارة ضدَّ أي خطاب ديني متطرف، وإن وُجد التطرف بالخطاب في بعض المساجد فلا يمكن تعميم ذلك أمام الوعي الوسطي الواسع، والوزارة مستمرة في بث الخطاب الوسطي ونهجها في ترشيد الخطاب الديني المستند إلى سماحة الإسلام، وسنواجه بالحجة كل فكر متطرف مهما كان منشؤه."
وأقر شبيبة بأنَّ "التنافس والصراع السياسي يؤثر أحيانًا في الخطاب الديني، إذ يتم توظيف الخطاب الديني للاستقطاب أو خلق رأي عام مناصر للجهة التي ينتمي لها الخطيب."
ورغم غياب الرد الواضح عن موقف الوزارة من زيارة العيدروس الذي استفسر "سوث24" عنه، دعا الوزير إلى "عدم تسيس المنابر." وأضاف: "يجب أن تكون المنابر منطلقاً لوحدة الصف والدعوة إلى التوحيد ومكارم الأخلاق وحث الناس على التمسك بكتاب الله وسنة نبيه، وبث قيم الخير في قلوب الناس."
زيارة العيدروس في عدن 11 نوفمبر 2022 (مركز سوث24)
وبشأن الخطاب المتطرف والمتشدد، أكَّد الوزير أنَّ الأوقاف والإرشاد تحرص على منع هذا الخطاب في معظم المساجد، مشيراً إلى أنَّ "المشروع التكفيري الشمولي الحوثي" هو من يمارس هذا الخطاب على أرض الواقع.
وأضاف: "لقد كفّر الحوثيون كل مخالف وأثخنوا القتل بالشعب. المناطق التي تسيطر عليها الحكومة اليمنية لا تشهد خطابا تكفيريا مثلما يحدث في مناطق سيطرة الحوثي. رسالة الإسلام تقوم على الوسطية والاعتدال، ولا يعني ذلك الغلو أو التساهل إلى الحد الذي تضيع فيه المبادئ والقيم تحت مسميات عصرية."
الوضع الحالي
في زيارة للمسجد، أوضح القائمون عليه أنَّ المسجد بحال جيدة. وقال الشيخ رضوان الدثني، المسؤول عن رباط العيدروس والقائمين بالتدريس فيه لـ "سوث24": "زيارة العيدروس لهذا العام كانت من أفضل الزيارات في الأعوام الأخيرة."
وأضاف: "لقد تم خلالها تكريم الطلاب الخريجين من رباط العيدروس لهذا العام، بحضور جموع غفيرة من العلماء والمشايخ والشخصيات العلمية والفكرية من مختلف المحافظات. لمدة أسبوع شهد المسجد حلقات من المحاضرات والندوات، وحضور للمنشدين، وحلقات الذكر."
وعن الطقوس القديمة للزيارة، قال المأذون الشرعي رمسيس حسام الدين، لـ "سوث24": "لم تعد الزيارة تشهد حدوث أي من تلك الطقوس التاريخية. لم نتلق أي تهديدات شخصية لكنَّنا نحاول مواكبة الوضع العام."
وأضاف: "الوضع الأمني لا يسمح بالقيام بفعالية شعبية في الشارع مثلما كان يحدث من قبل. لقد غيرت الحرب كل شيء."
وعلى الرغم من الإنجازات الأمنية والعسكرية الكبيرة التي حققها المجلس الانتقالي الجنوبي ضدَّ التنظيمات المتطرفة في جنوب اليمن، على مدى الأعوام الماضية، يبدو أنَّ أمام المجلس الكثير لإنجازه على مستوى الوعي والفكر لمجابهة نزعة التطرف.
وفي سبيل ذلك، يحتاج الانتقالي إلى دعم الخطاب الديني المتوسط لتعزيز مساعيه في استعادة دولة الجنوب التي ينشدها الشعب، وإزالة الرواسب الخطيرة التي رافقت الوحدة قبل ثلاثة عقود.
مراجع:
[1] رحلة "أبان" أقدم مساجد عدن بين نمطين من العمارة