أرشيف
13-08-2023 الساعة 3 مساءً بتوقيت عدن
الحجج طويلة الأمد التي تتعلق بأسباب استيلاء البحرية الملكية البريطانية على عدن في 19 يناير 1839 تمت منازعتها أخيرا من خلال كتاب "المسلمون الإمبرياليون" عام 2018
سوث24 | فاطمة جونسون
في إفادة خطية له في 1 أغسطس 1837، قال سيد نور الدين بن جمال: "في الأول من رمضان الماضي الموافق 10 ديسمبر 1836، تم تعييني في منصب ناخوذة [ربان باللغة الفارسية] للسفينة الشراعية دوريا دولت - 225 طنًا - المملوكة لـ البيجوم أحمد أم النساء، والدة سلطان مدراس الحالي [مقر سلطنة كارناتيك القديمة في جنوب الهند]". [1]
هذا الحدث الروتيني على ما يبدو المتعلق بتولي قيادة سفينة شراعية ساعد على تغيير مصير تاريخ عدن. إن السفينة الشراعية طراز "باركيه" هي سفينة ذات ثلاث صوارٍ ومزودة بأشرعة فريدة وهيمنت على عصر الشراع على مدار 300 عام بدأت تقريبا عام 1570. كانت "دوريا دولت" في طريقها من كالكوتا إلى جدة وليس عدن. وكانت محملة بشحنة بواسطة تاجر عربي يدعى فريد أنسوف. وضمت الشحنة أرز وسكر ومنسوجات بنغالية وشالات وكينكوب [منتج يدوي هندي] وطرود وخزانتين ومعلبات وزخارف وأقمشة ومعطر وردي وزنجبيل وفلفل وزيت جوز الهند وخزف، وأواني نحاسية، ولافندر، ومجوهرات. وكانت السفينة المذكورة تمارس نشاطها تحت الألوان البريطانية ويعني أنَّ العلم البريطاني كان يرفرف عليها وأنها كانت تحت الحماية العسكرية البريطانية. سلطنة كارناتيك، تلك المملكة الشاسعة في جنوب الهند التي كانت تضم مدراس (مدينة تشيناي حاليًا)، كانت قد أصبحت تحت النفوذ البريطاني في ستينيات القرن الثامن عشر عندما قام السير جون ليندساي [مفوض جورج الثالث ملك بريطانيا] بإخبار النواب [لقب يطلق على سلاطين مدارس آنذاك] الحادي عشر محمد علي خان ولاء جاه، أن ملك بريطانيا يرغب في حمايته من كافة الأعداء، حتى لو أن ذلك يعني شركة الهند الشرقية الإنجليزية نفسها! [2]
"انتشل سكان عدن البضائع بعيدًا عن السفينة لكنهم لم ينقذوا الناس. بعض النساء اللاتي هربن بشكل آمن إلى الشط قبل تمت تعريتهن وتفتيشهن من أجل الذهب. لقد عرفوا أنّني نور الدين الذي كان في جانب النواب وأجبروني قهرا على البقاء تحت الماء، ولكن الله حفظ حياتي. وكنت شاهد عيان على ممارسات أهل عدن"، [3] علما بأنَّ شهادة سيد نور الدين والعديد آخرين ممن كانوا على متن السفينة ليست مؤرخة.
لم تصل "دوريا دولت" قط لميناء جدة وبدلًا من ذلك، تعرض الناخوذة سيد نور الدين بن جمال بجانب أعضاء طاقم الآخرين لمحنة تقشعر لها الأبدان شهدت أعمال سطو واغتصاب ورشوة واعتداء ومحاولات قتل وتجويع في أعقاب التحطم المتعمد للسفينة قبالة ساحل عدن [4] في 20 فبراير 1837. وتعرض الناجون إلى الاضطهاد عند وصولهم إلى المخا على يد وكيل لشركة الهند الشرقية. وحاول الوكيل ممارسة الجنس مع زوجة تاجر كانت على متن السفينة. وكان التاجر في طريقه إلى مكة من أجل إقامة شعائر الحج. [5] وعلاوة على ذلك، كان هناك أيضا على متن "دوريا دولت" عدد ملحوظ من الحجاج المسلمين من كلا الجنسين. وفي أقل من عامين، احتلت حكومة بومباي عدن. سعت حكومة بومباي إلى الحصول على إذن اللجنة السرية لمجلس إدارة شركة الهند الشرقية لتنفيذ ذلك بعد 7 شهور من تحطم "دوريا دولت" في 26 سبتمبر 1837.[6]
"لقد بدأ العبادلة في عدن إطلاق النار على البريطانيين دون تحذير مسبق". [7] وفقا لخطاب أرسله الكابتن ستافورد بتسورث هاينز من البحرية الملكية البريطانية إلى حكومة بومباي في 13 ديسمبر 1837.
الحدث المشار إليه أعلاه اعتبره الكابتن هاينز بمثابة "إعلان حرب" من زعيم قبيلة العبدلي وسلطان لحج وعدن محمد حسين فضيل ضد بريطانيا. [8] وقبل هذا البيان، استفز نهب السفينة "دوريا دولت" حكومة بومباي [التي ظلت طويلا تحت الحكم البريطاني بعد تمرير قانون شركة الهند الشرقية عام 1784] نحو الادعاء بأن الاستيلاء على ميناء عدن كان مبررا نتيجة لأن العلم البريطاني تعرض "للإهانة" عندما سُرقت السفينة "دوريا دولت" وتم التحرش بمن كانوا على متنها بعد أن جنحت في عدن. اتهم تقرير أعده المسؤول بحكومة بومباي جيمس فاريش سلطان لحج وعدن بالاشتراك في سرقة البضائع جنبا إلى جنب مع سكان عدن. [9]
قال خطاب أرسله من عدن الكابتن هاينز إلى سكرتير حكومة بومباي في 6 نوفمبر 1837: "هل الإنجليز فقراء جدا لدرجة أن بإمكانهم تحمل سفينة واحدة فقط؟ وأنها جاءت إلى هنا من أجل الحديث فقط!. [10]
ويشير الاقتباس السابق إلى أن سلطان لحج وعدن سخر من المحاولات السلمية للموافقة على تسليم عدن ومينائها إلى البريطانيين بالتراضي. ونقل الخطاب عن السلطان فضيل قوله: "إذا أرسل الإنجليز العديد من السفن الحربية وضباط البحرية دون إشارة إلى الرغبة في دخول مفاوضات، فإنه سوف يتنازل عن السيطرة على عدن مباشرة". في الحقيقة، كشفت مصادر عام 1837 أن حكومة بومباي في البداية أرادت فقط تأمين اتفاقية تجارية لإنشاء مستودع فحم في عدن، لتضحى بشكل فعال محطة فحم عملاقة توفر آلاف الأطنان من الفحم لتشغيل سفن البخار الجديدة التي كانت بمثابة تطور تقني في عالم السفن والقدرة على الملاحة عبر الرياح الموسمية [11]. ولهذا الغرض، تم إرسال الكابتن هاينز إلى عدن على متن سفينة بخارية تحمل اسم "بيرينايس" في نوفمبر 1837 حاملا رسالة إلى السلطان فضيل تحمل تفاصيل الاقتراح المقدم من حكومة بومباي. ومع ذلك، تم رفض هذا العرض في نهاية المطاف في أعقاب سلسلة من المناقشات والمراسلات والتسويف والتقلب المزاجي من جانب السلطان في محاولات صريحة لخداع وإهانة البريطانيين وفقا لاعتقاد الكابتن هاينز. على سبيل المثال، في نقطة ما، ادعى السلطان فضيل أن قدمه تؤلمه كثيرا لدرجة تجعله غير قادر على الحديث. ولاحقا، قام الكابتن هاينز بتذكيره أنه لم يذهب إلى عدن من أجل "اللعب".
وقالت رسالة بعثها الكابتن هاينز للسلطان حامد في 31 أكتوبر 1838: "ينبغي أن تأخذ في الاعتبار أن البريطانيين الأقوياء بحرًا وبرًا أبرموا ميثاقا مع والدك يتعلق بأرض وميناء عدن وينبغي تنفيذه. ولكن تذكر أن البريطانيين رغم قوتهم رحماء لا يظلمون. وفي سبيل إقناعك بحقيقة ما أؤكده لك، أرسل لك نسخة من معاهدة نقل السلطة التي أطلب توقيعك عليها". [12]
يبدو الكابتن هاينز في الرسالة السابقة متحرقا بشكل واضح لتحقيق شكل من أشكال السيطرة على عدن. هذا التشوق لم يكن سببه فقط سلسلة من الإهانات المباشرة من عدن، ولكن أيضا بسبب معضلات الإمبراطورية العثمانية. في عام 1830، فقد العثمانيون اليونان. وعانى العثمانيون من المزيد من الهزائم العسكرية على أيدي الروس بالإضافة إلى غزو أضنة، المعروفة الآن باسم تركيا بواسطة واليهم محمد علي باشا عام 1833. إن ضعف الإمبراطورية العثمانية كان يعني أن البريطانيين لا يمكن أن يعتمدوا بشكل آمن عليها للحماية في مواجهة المنافسة الفرنسية والمصرية من أجل هيمنة أكبر على شمال إفريقيا وشبه الجزيرة العربية والخليج [العربي] والمحيط الهندي والبحر الأحمر. لقد أرعب نابليون بريطانيا عام 1798 عندما أرسل بعثة استكشافية إلى مصر. بحلول العقد الرابع من القرن التاسع عشر، بدأت فرنسا في الهيمنة على الجزائر. واحتل محمد علي باشا الحجاز ونجد عام 1833 أو ما يعرف حاليا باسم المملكة السعودية. وأدى هذا إلى زيادة الضغط من الغرب إذ بات "أمن وازدهار الهند البريطانية" [13] معرضا للخطر. من المثير للاهتمام ملاحظة أن الأحداث التي ضغطت على البريطانيين للاستيلاء عنوة على عدن في 19 يناير 1839 سبقت الجهود الدبلوماسية مع السلطان فضيل "من أجل إنشاء محطة فحم في 'باك باي' بعدن غرب شبه الجزيرة العربية لتلبية الاحتياجات الضرورية لبريطانيا وتفادي المواجهة مع مصر. [14]
وقال الكابتن هاينز للمشرف على البحرية الهندية في 20 يناير 1838: "يجب عليه (السلطان حامد) أن يكتب ويشرح كل شيء للسير روبرت جرانت. وحتى يعرف قراره، كان علي أن أختار موقعا ملائما كمستودع فحم على أن يقوم بنقله إلى البريطانيين تحت ختمه". [15]
الحجج طويلة الأمد التي تتعلق بأسباب استيلاء البحرية الملكية البريطانية على عدن في 19 يناير 1839 تمت منازعتها أخيرا من خلال كتاب "المسلمون الإمبرياليون" عام 2018 والذي ألفه سكوت إس. ريس الخبير أيضا في شؤون الإسلام في إفريقيا. في الرسالة السابقة، كتب الكابتن هاينز أن وريث سلطان عدن ولحج [حامد] عرض شفهيا التنازل عن السيطرة على ميناء عدن مقابل أن يكون حليفا لبريطانيا، مما يضمن منع غزو السلطنة بالإضافة إلى الحصول على دعم سنوي. وتجنب الكابتن هاينز الرد على هذا الاقتراح حيث طالب السلطان حامد بالاتصال بحاكم بومباي روبرت جرانت الذي كان يرغب في الاستحواذ المباشر على عدن [16] بجانب شخصيات رئيسية في حكومة "الويج" البريطانية [حزب سياسي منحل حاليا تأسس عام 1679]. ظاهريا، يبدو أن هذا المصدر يدعم الادعاء بوجود إجماع بريطاني بضرورة القيام- على نحو أعمى وعنيد- بتأسيس شبكة عالمية من المناطق (البحرية وغيرها)، وأن مثل هذا الاستحواذ على عدن كان خطوة منطقية أملاها الهدف الخام بتدشين محطة فحم لتناسب الأغراض البريطانية. ثمة توجه قوي لرؤية التاريخ الاستعماري البريطاني بأكمله كقصة محبوكة من الأنانية والذاتية لا سيما بين هؤلاء الذين ما يزالون يشعرون بالمرارة من تجربة الاستعمار البريطاني في القرن العشرين. [17] ومع ذلك، لا ينبغي أن تؤدي الجريمة الأخلاقية إلى طمس ما تكشفه قراءة أكثر تأملا وشمولا اعتمادا على المصادر ذات الصلة. وفي الحقيقة، تكشف المصادر أنه بخلاف تلك الرؤية المتعلقة بالهيمنة البريطانية العالمية، كان الدافع النهائي لاحتلال عدن منبعه مخاوف اقتصادية وسياسية عقلانية مشتركة تتضمن الحركة التجارية للتجار الهنود والعرب وتدفق رأس المال والمرور المستمر للسفن في خليج عدن والبحر الأحمر. وعلاوة على ذلك، كانت العلاقات مع سلطنة كارناتيك ما تزال مستقلة عن الحكم البريطاني بالإضافة إلى العلاقات مع العدد الهائل لمسلمي الهند. [18] كافة هذه المخاوف يمكن تغليفها في قصة السفينة "دوريا دولت". وتوضح المصادر أيضا أن الكابتن هاينز قام بالتعامل مع سيد نور الدين بن جمال وهؤلاء الذين نجوا من محنتهم بشكل جيد جدا عندما أتى إليهم في المخا وتعرف على الانتهاكات التي تعرضوا لها. لقد أخذ أقوالهم وتأكد من سلامتهم على مدار أسبوعين قبل أن ينقلهم إلى بومباي. [19] إن نزع الدناءة عن الممارسات البريطانية في عدن في 19 يناير 1839 سوف يمثل صدمة للكثيرين بلا شك. يصف ريس قصة "دوريا دولت" باعتبارها تذكيرا بأعمال جوزيف كونراد الأدبية (المخاطر القصوى للحياة في البحر). إنه يؤكد بشكل حازم ما يلي: "إنها قصة مخالفات وتقصير في أداء الواجب وطمع. إنها أيضا حكاية عن المثابرة والشجاعة والعطف. إن احتلال عدن كان نتيجة مباشرة للجنوح المتعمد للسفينة". [20]
وفي مقتطفات من ملاحظات موجزة عن عدن عام 1838، قال الكابتن هاينز: "في عهد قسطنطين، سميت عدن 'رومانوم إمبوريوم' بسبب شهرتها التجارية… إنه ميناء يستحق الاستحواذ وغزو الأتراك والبرتغاليين. المشهد في عدن يضاهي سينترا (مدينة جميلة في البرتغال… إنها (عدن) في واقع الأمر نموذجية". [21]
إن الفهم الذي يشير إلى أن عدن تم الاستيلاء عليها بالقوة عام 1839 من أجل تأسيس محطة فحم فقط هو نتيجة منح دراسية كسولة ورافضة. ملاحظات ريس في كتاب "المسلمون الإمبرياليون" تشير إلى أن قصة حطام السفينة دوريا دولت نادرا ما يتم عرضها بمصداقية في الأعمال التاريخية عن عدن حيث يتم تقديمها دائما "كذريعة رقيقة مقنعة تخدم التغطية على الدافع البريطاني الحقيقي". [22] في المقتطفات أعلاه، يكتب الكابتن هاينز بمحبة عن عدن ويكتب عن رغبة في استعادة مجدها التجاري السابق، وتنفيذ قوانين صحيحة أخلاقيا ونظام للحكم. إنه يدعي أن سلطان عدن كان ظالما للجميع، لا سيما فقراء عدن حيث فرض ضرائب على كل شيء واستفز قبيلة الفضلي لنهب 30 ألف دولار من عدن عام 1836. هذه المعلومات بجانب ما هو معروف بشأن حطام سفينة "دوريا دولت" لا تتوافق مع فرضية محطة الفحم المتعلقة بالدوافع البريطانية. ما يتعارض أيضا مع فرضية محطة الفحم هو الصلات الخيالية واسعة النطاق لعدن وعلاقتها التاريخية بالهند التي تعود لألف عام قبل الحكم البريطاني. في القرن الثالث عشر، هذه الفترة الشائعة، كتب الرحالة ابن المجاور في مذكراته أن هناك نفقًا في جزيرة سيرا في ميناء عدن يتصل مباشرة بما تعرف حاليا بـ "مدهيا برديش" في وسط الهند. وتشير مذكرات ابن المجاور إلى أن الإله الهندوسي "هانومان" قام بحفر النفق لإنقاذ سيتا من مجاعة رامايانا بعد أن خطفها شيطان يدعى "هاداثار" من "مالوا" القديمة في الهند وأخذها إلى عدن. في ظرف ليلة واحدة، شق هانومان نفقا ووجد سيتا نائمة تحت شجرة شوك في عدن ووضعها على ظهره ونقلها عبر النفق إلى الهند. [23] هناك العديد من أمثلة الأدب العربي الأخرى التي سعت إلى تقارب عدن بالهند من خلال استمرار الزعم بوجود قوة جذب خارقة للعادة بينهما. وقال ريس إن الجهود الرامية لرسم هذه العلاقة السحرية كانت بسبب التأثير المستمر للمفهوم الهلنستي المتعلق بتأسيس الهند الكبرى بحيث تضم شبه الجزيرة العربية. وفي سرديات أكثر شيوعا بشأن العلاقة بين عدن والهند، تم تسليط الضوء على الروابط الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والدينية والجيوسياسية بين الطرفين. وجهة نظر ريس الكامنة مفادها أن عدن والهند ظلا كيانين ملتصقين لمدة ألف عام على الأقل: …"إن تأسيس مستوطنة عدن عام 1839 كان مجرد التكرار الأحدث لتصور المحيط الهندي الذي يعود إلى قرون مضت". [24] إن الرحلة المنكوبة للسفينة "دوريا دولت" التي علقت في واحدة من شعاب عدن المرجانية في الثالثة صباح يوم العشرين من فبراير 1837 كانت بمثابة الجرس الرنان للعلاقة المتينة بين عدن والهند وإن كانت بتسهيلات من البريطانيين هذه المرة.