Ali Owidha / Reuters
26-09-2023 الساعة 7 مساءً بتوقيت عدن
سوث24 | وضاح العوبلي
تنتهي كل الحروب والصراعات بالتسويات التي تفرضها المعطيات على الأرض، أو بعد أن تصل جميع أطراف الصراع إلى نقطة "توازن القوى"، التي يصبح فيها كل طرف عاجزاً عن هزيمة الطرف الآخر. وفي هذه الحالة، من الجائز أن يكون للمعطيات والمواقف والسياسات الدولية والإقليمية تأثير مباشر على طبيعة وتوجهات مسارات السلام كما هي أيضاً في مسارات الحرب والصراع.
في اليمن بشكل خاص، فإن تعقيدات المشهد أو طبيعة الصراع ليست بين طرفين اثنين فقط، كما يعتقدها البعض من باب التجاهل والتجاوز لمطالب بعض القوى الرئيسية ومشاريعها السياسية التي تتطلب ضرورة الاعتراف بها والتعاطي معها إيجابياً. إذ من المهم الاعتراف بضرورة إفراد مسارات وإطارات خاصة بملفاتها ضمن فعاليات التفاوض والمشاورات، وبما يضمن مناقشتها وإيجاد المخرجات العادلة لها كشرط أساس لنجاح أي تسوية بما يضمن سلاسة تنفيذها.
إن معادلة التمثيل العادل في الحوار والمفاوضات تبدو مختلة مالم تأخذ في اعتباراتها طبيعة التوزيع الراهن للقوى اليمنية الرئيسية على الأرض، من ذلك أهمية الاعتبار للمواقف والمطالبات والمشاريع لهذه القوى كمبدأ مهم للولوج إلى مسارات يمكن البناء عليها لإحلال السلام المستدام، عوضاً عن ترحيل ملفات الصراع، لاسيّما إذا استمرت المفاوضات بذات الآلية التي تجري عليها في سلطنة عمان منذ عام ونيف تقريباً، وما تفرّع منها من ماراثون لقاءات في صنعاء والرياض.
إن المفاوضات بالآلية المتبعة تفرض التنبيه المبكّر، بأنها لا تتوافق وطبيعة انتشار القوى على الأرض، وطالما مضت بهذا الشكل فلن تحقق الحلول المرجوّة ولن تترجم أي استجابة للمطالب السياسية والحقوقية والوطنية العادلة.
مسار إجباري
في كل جولة مشاورات تذهب إليها المملكة مع جماعة الحوثي، تبدو مواقف القوى الشمالية منسجمة مع هذا التوجه ودون إبداء أدنى اعتراض، وهذه المواقف تترك الملعب مفتوحاً أمام مطالب الحوثي المتصاعدة. ومن جهة أخرى، تبرز مخاوف المكونات الجنوبية وتترجمها التصريحات والتأكيدات المستمرة بأهمية تشكيل فريق التفاوض بالمناصفة وبإطار تفاوضي خاص للقضية الجنوبية وفق مخرجات مشاورات الرياض إبريل 2022، التي نصّت على ضرورة أن يكون للقضية الجنوبية إطارها التفاوضي في أي مفاوضات سلام برعاية الأمم المتحدة.
على الرغم من تأييد المجلس الانتقالي الجنوبي في آخر بيانٍ له، جهود السلام تزامناً مع زيارة الوفد الحوثي والعماني إلى الرياض منتصف سبتمبر الجاري، الذي أكد فيه حرصه على تحقيق عملية سياسية شاملة ومستدامة تؤسس لحوار غير مشروط لضمان معالجة جميع القضايا وفي طليعة ذلك الإقرار بقضية شعب الجنوب ووضع إطار تفاوضي خاص لحلها، إلا أن تصريح "عيدروس الزبيدي"، لصحيفة الجارديان البريطانية مؤخراً، أظهر عدم رضا من جانبهم نظراً لاستبعادهم. وذكر بشكل واضح، أنّه تمّ تهميشهم ودفعهم إلى جانب واحد في المحادثات التي تمت في الرياض، مشيراً إلى إنّه في حال تمّ التوصل إلى اتفاق سيئ يسمح فعلياً بسيطرة الحوثيين، فإن إيران ستسيطر على آبار النفط في الجنوب وطريق باب المندب.
يفرض المجلس الانتقالي الجنوبي نفسه ممثلاً للقضية الجنوبية معتمداً على قاعدة شعبية عريضة من الأنصار والمؤيدين، وعلى قوة عسكرية وأمنية أصبح لها كلمة الفصل أمنياً وعسكرياً في أغلب محافظات الجنوب التي تنتشر فيها القوات العسكرية التابعة له، باستثناء وادي وصحراء حضرموت ومحافظة المهرة، وهي المناطق التي توقفت قوات الانتقالي العسكرية على أبوابها لحسابات مرتبطة بدول مجاورة؛ أظهرت عدم رضا بانتشار قوات جنوبية تتبع الانتقالي بالقرب من حدودها.
سباق نفوذ
عملياً ظهرت المملكة العربية السعودية في الأشهر الأخيرة مهتمة بمشاورات السلام مع جماعة الحوثي، تزامن هذا الاهتمام مع تحركات سعودية لفرض ما يشبه الإعداد للحصول على نفوذ سعودي دائم في محافظة حضرموت الواسعة جغرافياً والغنية بالنفط والمعادن، إضافة لموقعها المطل على البحر العربي وخليج عدن، وذلك بالتزامن مع نفوذ عماني يتخلّق في المهرة سراً وعلناً منذ سنوات الحرب الأولى.
قد ينظر الطرفان السعودي والعماني إلى منطقة جنوب اليمن المحاذية لحدودهما، كمساحة حيوية لاعتبارات الأمن القومي والفعل الاقتصادي. وكلا الدولتين تحاولان فرض وجودهما في حضرموت والمهرة حتى تضمنان تأمين حدودهما فضلاً عن الفائدة الاقتصادية التي قد يخلقها هذا التواجد. وليس سراً أنّ السعودية سعت لتجنيس كثير من الرجال الحضارم ذوي رؤوس الأموال، وكذلك سلطنة عمان في المهرة. لضمانات ربما تتعلق بالولاء وكذلك لمسك الأرض وتأمينها.
ولتدعيم هذا النفوذ شرعت الرياض إلى دعم بعض المكونات الحضرمية بوضوح، واستدعت عدداً من الشخصيات الحضرمية في شهر مايو العام الحالي للرياض، وذلك لتأسيس ما أسمي بـ "المجلس الوطني الحضرمي" الذي أعلن عن إشهاره في 20 يونيو الماضي. ورغم ذلك، مازال يشوب المجلس الحضرمي كثير من التباينات بين أعضاءه ومكوناته نظير سيطرة أحزاب سياسية بعينها على مفاصله، وهو الأمر الذي أدى بطبيعة الحال لتأجيل عقد مؤتمره الأول.
هواجس مشروعة
في هذا السياق وبحسابات الأمن القومي للمملكة، يمكن تفهُم مخاوفها المستقبلية من عوائق تصدير النفط الذي يعتمد عليه اقتصادها ودخلها السيادي والقومي وترتكز عليه صفتها الاعتبارية الدولية ذات الثقل بدرجة أساسية، وهذه المخاوف تنشأ من طبيعة تحكم الحرس الثوري الإيراني على مضيق هرمز بوابة بحر الخليج العربي، وهو ما يجعل من النفوذ السعودي في حضرموت يبدو كقضية أمن قومي بالنسبة للمملكة. فإلى جانب الحدود المشتركة معها بحوالي 700 كم، ترى المملكة بإن حضرموت تمثل أهم ممر إسعافي بديل يتيح لها تصدير نفطها منه عبر بوابة البحر العربي دون الحاجة للمرور عبر مضيق هرمز، أو دون الاستسلام للابتزاز الإيراني المتمثل بالتهديدات المتعاقبة بإغلاق مضيق هرمز، لا سيّما في حال تعرضت إيران ومنشئاتها النووية لضربة عسكرية أمريكية إسرائيلية.
موقف تكتيكي
تعتقد عدد من المكونات الشمالية، أنّ النفوذ السعودي في حضرموت سيمثل عقبة أمام مشروع المجلس الانتقالي باستقلال الجنوب، بل سيؤدي لإفشاله. على اعتبار أن النفوذ السعودي هناك يأتي تدشيناً لإقليم حضرموت في إطار فرض دولة اليمن الاتحادي اعتماداً على وثيقة مخرجات الحوار الوطني المنعقد في صنعاء 2013. قد لا يبدو أن المكونات الشمالية تبالي بتغيّر الواقع على الأرض بعد 2015، والذي تغيرت معه المعطيات والأطراف وموازين القوى، إذ لم يعد مناسباً فرض تلك المخرجات ضمن مرجعيات الحل القادم في اليمن.
كما إن الوثيقة المشار إليها ما زالت في حكم المسودة، إذ يتطلب إقرارها ضرورة صياغة دستور اتحادي يُطرح للتصويت الشعبي، ويسبق إقرار الأقاليم. لهذا، لا يوجد حتى الآن ما يشرعن تدشين الأقاليم، وهو ما يجعل مواقف القوى المذكورة موجهة ضمن الفعل ورد الفعل الإعلامي مع الانتقالي الجنوبي.
مقاربات مستقبلية ممكنة
من المهم الإشارة هنا، إلى إنّ تأكيدات المجلس الانتقالي بشكل مستمر في خطاباته، بأن هدفه بناء دولة الجنوب الفيدرالية المستقلة التي تضمن حق الأقاليم في الإدارة المحلية كاملة الصلاحيات، وهو ما أوضحه المبدأ الرابع من الميثاق الوطني الصادر بتوقيع عدد من المكونات الجنوبية بتاريخ 8 مايو الماضي. إذ يؤكد ذلك، بأن حضرموت ستكون إقليماً فيدرالياً في أجندة المجلس الانتقالي وفق رؤيته للدولة المنشودة، وهو ما ينطبق على باقي محافظات الجنوب.
إذ من الممكن أن يوفّر هذا الأمر أرضية مشتركة لبناء مقاربات سلسة التنفيذ بين الانتقالي والمملكة العربية السعودية، أساس هذه المقاربة هو ضمان تسليم المجلس الانتقالي بالنفوذ السعودي في حضرموت وتفهّمه لهواجسها والتزامه بضمان تأمين الهواجس الأمنية السعودية مستقبلاً، على أن يُقابل ذلك بتسليم المملكة بضرورة قيام (دولة جنوبية فيدرالية) تبقى فيها أي ترتيبات أو قرارات تخص إقليم حضرموت مستقبلاً مرهونة بالتنسيق مع الأطراف الحضرمية المدعومة من المملكة ضمن إطار دولة الجنوب، لاسيما في المراحل الأولى التي تتطلب بناء الثقة بين الجانبين السعودي والجنوبي.
إنّ هذا الاستعراض الموضوعي لهذه المقاربات وللطريقة التي تفكر بها جميع الأطراف اليمنية المحلية في بناء مواقفها، تقرع جرس إنذار مبكر للأطراف الدولية والإقليمية الفاعلة في المشهد اليمني بأهمية بناء تسويات متوازنة تتعاطى بإيجابية مع مستجدات التحولات والمواقف ومع الواقع على الأرض، كما تستوعب متطلبات الأطراف بشكل مهني ودقيق يتيح لها الوصول إلى بناء صيغة حلول مُمكنة التنفيذ، وينصرف جميع الأطراف لتنفيذها عن قناعة بعيداً عن ترحيل بعض الملفات، أو وضع ألغام قد تنفجر بها التسويات في مراحلها الأولى.
اصطدام وفشل تنفيذ
إذا ما راجعنا نسبة ما تم تنفيذه من مضامين لأبرز التسويات والاتفاقات التي انعقدت في المراحل الماضية بمختلف محطاتها وتوجهاتها؛ ابتداءً من اتفاق ظهران الجنوب المنعقد بين السعودية والحوثيين في إبريل 2016، واتفاق استوكهولم بين الشرعية والحوثيين في 2018، وكذلك اتفاق الرياض المنعقد بين مكونات الشرعية بصيغتها السابقة وبين المجلس الانتقالي الجنوبي في نوفمبر 2019، مروراً بمخرجات ما أُسمي بمشاورات الرياض إبريل 2022، سنجد تقريباً أن ما نسبته 80 بالمائة من مضامين ومقررات ونقاط تلكم الاتفاقات قد صيغت ارتجالياً، ودون أي مراعاة للحقائق والوقائع التي حالت دون شك أمام تحقيق تنفيذها. إذ استحال تنفيذ أغلب مضامين الاتفاقات المذكورة التي لم تأخذ في حسبان صائغيها من الوسطاء والمبعوثين حقائق الأمر الواقع وطبيعة المرحلة التي صيغت فيها تلك الاتفاقات. فيما تهرّبت أو رفضت بعض الأطراف المعنية في تنفيذ بعض التزاماتها رغم توفر ظروف وإمكانيات التنفيذ، وهذا أدى في نهاية المطاف إلى تعليق عدد من البنود والالتزامات إلى اليوم، والبعض الآخر تجاوزته المرحلة وفقاً لطبيعة التغيُرات التي طرأت على خارطة السيطرة والنفوذ على الجغرافيا المشمولة بتلك الاتفاقات والتسويات.
في المحصّلة ومما سبق ذكره، تقول الحقائق والمعطيات إنّ الذهاب إلى ترتيب تسويات نهائية للصراع في اليمن، يتطلب بناء تسويات تتفق في محدداتها وخطوطها العريضة مع طبيعة الوضع القائم على الأرض، وتستوعب مطالب جميع الأطراف مع ضبط آلية تنفيذها بصورة مزمّنة، مع توفير ضمانات لازمة لتنفيذها، مالم فإنها ستُضاف إلى قائمة طويلة من التسويات والاتفاقات المعلّقة والجوفاء والمستعصية على التنفيذ.