الصورة: نشرها مركز الإعلام الأمني التابع للحوثيين لجنود يهتفون لزعيم جماعة الحوثيين عبد الملك الحوثي، في ساحة العروض بصنعاء (سبتمبر 2022)
20-01-2023 at 7 PM Aden Time
ورقة تحليلية | أحمد عليبة
أقامت المليشيا الحوثية عدداً من العروض[1] العسكرية في نهاية صيف العام 2022، مواكبة لنهاية هدنة شكلية[2] استمرت نحو نصف عام تقريباً. وكمقاربة أولى يبدو أنّ هناك علاقة شرطية ما بين تلك العروض والهدنة، حيث يمكن القول أنه لو لم تكن هناك هدنة لما تمكّنت المليشيا الحوثية من تنظيم تلك العروض العسكرية. وبالتبعية يبدو الهدف من عملية استعراض القوة هو سعي المليشيا لفرض استحقاقات الهدنة العالقة، إلى جانب اظهار الشكل التنظيمي، حيث حرصت المليشيا أن تعكس العروض حالة من الإبهار، بغرض تشكيل انطباع مغاير للصورة النمطية عنها كمليشيا، وأنها باتت تمتلك جيشا نظاميا، كجزء من مسار تطور "المليشيا الدولة". وهو ما يطرح تساؤلا رئيسياً مفاده: هل يمكن أن تتحوّل المليشيا إلى مؤسسة؟ أو بصيغة أخرى، هل المليشيا الحوثية قابلة للتجييش؟
لكن من جانبٍ آخر، تنطوي محاولة الإجابة عن هذا التساؤل من خلال تحليل مشهد الصورة في العروض العسكرية الحوثية على اختزال مخل للفكرة، نظراً لمكانة وموقع ودور الجيوش في بنية الدولة الوطنية، باعتبارها النواة الصلبة، وأحد أركان قوتها الشاملة، وعقيدتها الراسخة كجزء من الهوية الوطنية الجامعة. لكن لا يمكن في الوقت ذاته تجاهل ما للصورة من دلالات في سياق المشهد اليمني العام، والتطلعات الخاصة بالمليشيا الحوثية على وجه التحديد، من حيث الأبعاد السياسية والأمنية، مع الأخذ في الاعتبار أنّ تلك الأبعاد تخدم أجندتين متصلتين، أجندة المشروع الإيراني في الإقليم، والأجندة السلالية للمليشيا الحوثية في اليمن.
أولاً: الأبعاد الشكلية
شكلياً؛ في كلتا الحالتين، سواء عملية استعراض القوة العسكرية، أو إظهار الشكل النظامي، ثمّة فجوة كبيرة بين الشكل والغاية. على سبيل المثال، لا يمكن مقارنة العروض العسكرية التي أقامتها المليشيا في مواقع متعددة، وعلى رأسها العرض الرئيسي الذي أقامته في العاصمة صنعاء في الذكرى الثامنة للانقلاب الحوثي (سبتمبر 2014)، بالعروض العسكرية التي كانت تقام قبل الانقلاب وآخرها العرض العسكري في ذكرى "الوحدة اليمنية"[3] الـ19 عام 2009 في الموقع ذاته في العاصمة صنعاء، والذي اُفتتح بالإنزال المظلي واستعراض المقاتلات الجوية. وبعد 13 عاماً تقريباً تستعرض المليشيا الحوثية نسخة باهتة من تلك العروض إلى حد كبير إذا ما قورنت بتلك النسخ السابقة، وذلك رغم مشاركة عدد كبير من الأسلحة العسكرية والآليات نفسها من دون تغيّر شكلي أو جوهري.
أما بالنسبة للغاية فهي استعراض قوة لغايات لا تنسجم مع الاعتبارات الوطنية. صحيح أن الاستعراضات السابقة وإن حملت عنوان "الوحدة الوطنية" رغم وجود بعض التحفّظات على ممارسة النظام السابق من حيث مسار الاندماج الإكراهي كوحدة استندت إلى آلة القوة، إلا أنه لا يمكن أن توضع في مقارنة مع المسار المضاد للحوثيين، وهو مسار "التفكيك الإكراهي"، من جانب فصيل يحارب قوى وطنية أخرى، بالوكالة لصالح طرف إقليمي، يستهدف إضعاف الدولة اليمنية وتفكيكها، ولتهديد أطراف إقليمية أخرى.
ومع الأخذ في الاعتبار، أنّ التقديرات الدولية كانت تمنح الجيش السابق تصنيف أقل من المتوسط على المستويين الدولي والإقليمي، فيما تشير تقديرات أخرى إلى أن الرئيس السابق "علي عبد الله صالح"، كان يخطط، في العام الأخير من عهده في الحكم، في مشروع لتحديث أسلحة الجيش على التوازي مع خطط التحسين المتدرج للتشكيلات العسكرية بإنشاء قوات نخبوية جديدة، لكنه كان استدراك متأخّر. وتعرّض الجيش لحالة من التفكك على خلفية التطورات السياسية اللاحقة لعام 2011، والتي أظهرت في الوقت ذاته حجم التحديات التي كانت تعاني منها المؤسسة السابقة، التي شكّلت نقطة الضعف التي استغلتها المليشيا الحوثية في مسار الصعود. وفي المقابل لا تخضع قدرات وإمكانيات المليشيا الحوثية العسكرية لأي تصنيف دولي أو إقليمي، لاعتبارات لا تتعلق فقط بعامل انعدام المشروعية، بل كذلك تفتقر للحد الأدنى من القواعد والمعايير المتبعة في التصنيف من حيث لا يمكن مناظرتها بالجيوش، حيث توصف ولا تصنّف، كـ "آلة حرب" فقط.
ثانياً: الترقية الهيكلية والدور الوظيفي
يمكن التعبير عن فكرة الترقية والدور الوظيفي من خلال مقاربة أخرى، وهي "المناظرة"، من حيث فكرة استدعاء المناظرة للحوثي من فلك الوكلاء الإقليمين، باعتبارها قاسم ذي دلالة جوهرية في تحليل مشهد العرض العسكري. فكما يمثّل الحرس الثوري الإيراني الرافد الرئيسي لعملية التسليح الحوثية شأنها شأن باقي الوكلاء، فإنّ عملية ترقية المليشيا إلى مستوى "التجييش" هي نهج إيراني متبع في إطار تطوير خطة تعزيز الأذرع الإقليمية، على غرار الحالة العراقية، ومن قبل حزب الله اللبناني، والفصائل الفلسطينية المقرّبة من إيران. حيث يجري تطوير لهيكل المليشيا في سياقين، الأول: هو السياق الهيكلي، بحيث تضم المليشيات مكونات متخصصة أشبه بالكتائب النوعية، حيث يقسّم الهيكل المليشياوي إلى فروع للصواريخ والدرونز والبحرية وغيرها من التشكيلات المسلحة، إضافة إلى التشكيلات اللوجستية، ومجموعات النخبة المتخصصة في الاستخبارات والاستطلاع ...إلخ. والثاني: هو السياق الوظيفي: من حيث أنّ دور هذه المليشيات هو القيام بدور ما يُعرف بالجيوش الموازية كما هو الحال في الحالتين العراقية واللبنانية.
وللتمثيل على ذلك؛ في الحالة العراقية، قد يكون تُشكّل كيان "الحشد الشعبي" النموذج الأكثر حداثة في هذا الإطار، فعلى الرغم من أنه تم هيكلتها ضمن المنظومة الأمنية الرسمية، لكن لم يتم إدماجها مع الجيش النظامي، ولا يمكن للجيش النظامي بطبيعة الحال استيعابها، وغالباً ما توصف على أنها مكوّن طائفي، بالإضافة إلى عدم استيعاب الدور المنوط بها في ظل وجود قوات مكافحة الإرهاب. بالإضافة إلى عامل الولاء، حيث تحتل أولوية المرجعية والتقليد (الأيديولوجيا) المرتبة الرئيسية في تشكيل وعي ودور المكونات المنضوية تحت مظلة الحشد، وهو ما يشكّل مدخلاً للشكوك في مسألة العقيدة الأمنية والتبعية للقرار الوطني.
بينما يمكن تصور أنّ الحالة الحوثية تشكّل نمطاً مختلفاً عن نمط الازدواجية السالف الإشارة إليه في الحالة العراقية، وهو نمط البديل، فالهدف هو تأسيس المليشيا البديلة للجيش الوطني، وهي نقطة فارقة في الحالة اليمنية. على سبيل المثال، تسعى المليشيا الحوثية إلى الحصول على الاعتراف بها كقوة عسكرية مستقلة، وهو ما يتناقض مع مسار تسوية الأزمة اليمنية، التي تتطلب تفكيك المليشيا وتسليم السلاح، ويمكن استيعاب من لديهم أرقام عسكرية قبل انقلاب 2014، لكن المليشيا بهذه العروض تستبعد تماماً التسوية وفق هذه القاعدة المتعارف عليها[4]، وهي قاعدة التسريح والدمج (DDR-SSR). وسياسياً أكدت على هذا الاستبعاد من خلال التأكيد على عدم قبولها بالقرار الأممي 2016، الذي يشير إلى إعادة الأمور إلى أصلها للانخراط في تسوية.
من جهة أخرى، ذات صلة بمسألة الاعتراف، بل وكخطوة استباقية، فإنها تطالب بتمويل قواتها من موازنة الحكومة المعترف بها دوليا[5]، وهو ما يتناقض مع الواقع والمنطق. إذ كيف يمكن تمويل قوتها العسكرية بشكل مستقل، دون المرور بعملية إعادة الهيكلة في إطار مسار التسوية، وفقاً للاستحقاقات الفنية المتبعة في هذا الأمر. بصيغة أخرى كيف يمكن تمويل قوة انقلابية داخل الدولة، لمجرد الدخول في هدنة، وبالتالي فالمتصور أنّ المليشيا تسعى إلى تطبيع الأمر الواقع، وفرضه على الأطراف التي تسعى إلى اعتماد الحل السياسي لتسوية الأزمة.
واتصالاً بما سبق، في وقت مبكر بعد الانقلاب الحوثي، تذرّعت المليشيا الحوثية بانتساب مجموعات غير عسكرية إلى الجيش المعترف به، وتحديداً منتسبين محسوبين على حزب الإصلاح بما يزيد عن 10 آلاف عنصر، فى ذلك الوقت. وفي واقع الأمر لا يمكن التشكيك في طبيعة هذه الخطوة، التي تتطلب بدورها عملية إصلاح هائلة في هيكل القوات المسلّحة التابعة للحكومة المعترف بها دوليا، خاصة بعد تشكيل لجنة معنية[6] بعملية الهيكلة بعد مشاورات الرياض (إبريل 2022)، مع الأخذ في الاعتبار أنّ المليشيا لا تضع في حساباتها عملية الاندماج، وإنما الاستمرار كقوة عسكرية مستقلة عن الجيش الوطني شأن الوكلاء الإيرانيين في دول الصراعات والأزمات في الإقليم، وهي مسألة من الصعوبة بمكان القبول بها لاعتبارات عديدة، في المقدمة منها ما يتعلق بالجانب العقائدي والولائي.
ثالثاً: الدلالة المرحلية
إجمالاً لما سبق من أبعاد ودلالات، يمكن القول إنّ المشهد الاستعراضي، يعد بمثابة إعلان عن عملية الانتقال ما بين مراحل التطور الحوثي، وفقاً للمسار الذي ينتهجه الحرس الثوري مع الوكلاء. فالمرحلة السابقة كانت فصلاً من شكل المليشيا ودورها الوظيفي بشكل سيختلف عن الشكل التالي، بغض النظر عن سياقات التجييش، أو مقاربة الجيش والمليشيا. من الأهمية بمكان الأخذ في الاعتبار عامل حيوي في مسار الترقية، وهي مسألة العقيدة كمحدد. للجيوش عقيدتها العسكرية، بينما للمليشيات أجندتها المرحلية المتغيرة. في الحالة الخاصة بوكلاء إيران، ومنها الحالة الحوثية، فإنّ هذا البعد يكتسب نوع من الاستثناء، بمعنى أنّ الأيديولوجيا ثابت وليست متغير.
لكن السؤال المركزي في هذه الجزئية، هو أي أيديولوجيا؟ في الحالة العراقية واللبنانية أيضاً، هو امتداد أو رابط أيديولوجي ما بين المرجعية الإيرانية - "ولاية الفقيه"- وبعض الفصائل أو المكونات الشيعية في تلك الدول، وليس كل الطوائف الشيعية. في الحالة اليمنية هناك عملية "تصدير" للولاية، بالنظر إلى عدم انسجام الإطار المذهبي في إيران مع الواقع اليمني، لكن تجاوزت طهران هذا التحدي من خلال مشروع الاختراق المبكر في اليمن عبر العائلة الحوثية. وبينما كانت هناك محاولات استدراك من النظام السابق لهذا البعد، في المراجعات الخاصة بمسألة الولاية والحكم، إلا أنّ ضعف النظام السابق، ثم ضعف الدولة في مرحلة ما بعد 2011 شكّل أرضية لهذا الاختراق.
في واقع الأمر، تحوّلت عملية التصدير عبر وسائل التسلل الناعمة، إلى عملية "عسكرة للتشيّع" وتصدير المذهب على النحو الحالي في اليمن. ومن الصعوبة بمكان تجاهل هذه الجزئية كمكوّن في المظاهر العسكرية التي تبني الصرخة الإيرانية، والدروس الدينية. وبالتبعية بات من الصعوبة أيضاً تجاهل تداعياتها على عملية التنشئة والتكوين والتطور المرحلي.
ربما ما يلفت الانتباه في هذا السياق، هو الإعلانات الخاصة بالكليات العسكرية في المناطق الحوثية، القديمة أو التي استحدثتها، والتي تتضمن، على نحو ما كان متبعاً في السابق، عدم الانتماء السياسي للمتقدمين لتلك الكليات، في حين أن العملية الدراسية لا تخلو مناهجها وتدريباتها من الأيديولوجيا الدينية. وتكشف الممارسة في هذا السياق، أنّ المنتسبين غير منتمين لكافة الأطياف السياسية التي تتعارض مع الحوثية بطبيعة الحال، بهدف الاستعداد لتشكيل وعي سياسي وأيديولوجي جديد.
رابعاً: مقاربة البنية المؤسسية (المكوّن الهجين)
بشكل عام؛ تتضح المسافة ما بين المليشيا كمكوّن شبه عسكري والجيش كمؤسسة نظامية، بحكم تاريخ التكوين ومسار التطور وطبيعة الأنساق والإطار التنظيمي.[7] وبخلاف ما سبق الإشارة إليه من فوارق في مسألة التصنيف، تظل المليشيا مكوّن مغلق، بالإضافة إلى البعد الولائي، والأيديولوجي، لكن بالنسبة للجيوش هناك مظاهر استراتيجية ولوجستية هامة. منها على سبيل المثال لا الحصر، طبيعة التمارين الاحترافية مع الجيوش المناظرة، وعملية التسليح التي تخضع لقواعد منضبطة ولو في حدها الأدنى، فيما تحصل المليشيا على الأسلحة بشكل سري وعبر عمليات التهريب. ولا يمكن الاقتناع بأنّ المليشيا الحوثية لديها القدرة على التصنيع العسكري، بغض النظر عن استيلائها على بعض المصانع العسكرية التي كانت تابعة للنظام السابق، لكنها أيضاً تظل محدودة القدرة وفقيرة في هذا الجانب.
لكن من الناحية الواقعية أيضاً، يمكن القول أنّ المليشيا الحوثية طوّرت نسخة "هجينة" للقوة العسكرية. فالمكوّن العسكري النظامي الذي ورثته المليشيات تم تعزيزه بالمجموعات المليشاوية، والمتصوّر أنّ الرابط في هذا الصدد هو الفكرة السلالية في المقام الأول، بالإضافة إلى المكاسب والمصالح لدى البعض، أو بصيغة أخرى، فكرة "الزبائنية". هناك من يرون في المكوّن العسكري الحوثي ليس أكثر من مصدر للتكسب والاسترزاق، ومن ثم يمكن القول أنه تم تضييق هذه المسافة نسبياً عبر نقاط الالتقاء ما بين المليشيا والجيش النظامي في اليمن، أو بالأحرى (بقايا الجيش النظامي) الذي ورثت المليشيا الحوثية جزءاً منه، لأسباب تتعلق بالسياق السياسي وتحالفاتها في المرحلة التالية للانقلاب مع الرئيس على عبد الله صالح، قبل أن تتحول العلاقة إلى العداء. لكن لا يمكن لعملية الانشطار التي تعرّض لها الجيش الوطني أن تؤسس لجيش جديد أو بديل.
تاريخياً، تشير بعض المصادر إلى أنه في مرحلة ما بعد الدولة الإمامية وإعلان الجمهورية كان هناك مكون متنفذ في الجيش ينتمي، بطبيعة الحال، للخط الطائفي. وتنامى هذا المكوّن أو وجد فرصته للعودة للمشهد مع ظهور المليشيا الحوثية على الساحة بعد 2011. ومن الممكن القول إنّ هذا المكون هو الذي يضمن لها البقاء. لكن في الوقت ذاته، سيواجه هذا المكون بمرور الوقت تحديا، مع المتغير الجيلي، والسيطرة السلالية ما بين القاعدة "الهاشمية" وقاعدة العائلة الحوثية. والعامل الآخر، هو التآكل الجيلي للكوادر التي تخرجت من المدرسة العسكرية السابقة، والتي تعتمد على استنساخ تلك المنظومة مع تطويعها بما يناسب الأجندة الحوثية، إضافة إلى دور العامل الإيراني الذي يساهم في عملية تشكيل هذه المنظومة عبر الأسلحة والمدربين.
ويعكس بُعد العقيدة والمؤهلات العلمية أو التأهيل العلمي بُعدا رئيسيا في التكوين العسكري للجيوش. في الحالة الحوثية لا يوجد نظام تعليمي يمكن الاعتراف به في عملية التأهيل. فاليمن بشكل عام خارج التصنيف بسبب طبيعة ظروف الحرب، لاسيما دور المليشيا الحوثية فيها، وتفتقر مناطق السيطرة والنفوذ الحوثي إلى الإمكانيات الطبيعية المطلوبة للتأهيل العلمي في الحد الأدنى، وهناك الملايين خارج منظومة التعليم بسبب تلك الحرب. هناك أكثر من 8 آلاف معلّم تم تسريحهم، وآلاف آخرين إما تم اعتقالهم أو تسريحهم وفق البيانات الدولية والحكومية الرسمية. وفيما يتعلق بالبعد البنيوي أيضاً، وارتباطه بالتأهيل التعليمي والأكاديمي، يفتقر التكوين الحوثي (الهجين) إلى مواكبة الحداثة والمعاصرة لدى الجيوش، على سبيل المثال هناك غياب للتشكيلات العسكرية ذات الطابع التكنولوجي، مثل أسلحة الإشارة والحرب الالكترونية وغيرها من تلك الأسلحة.
يمتد هذا الخلل إلى مستوى تكوين القيادة الحوثية، إذ منحت المليشيا بشكل هزلي رئيس مكتبها السياسي مهدي المشاط رتبة المشير[8]، وهي مسألة يصعب استيعابها في الوضع التقليدي، بل إنه منح درجة الماجستير (الفخرية) في حين لا يُعرف على وجه التحديد ما هو مؤهله العلمي. وبعض المصادر الحوثية[9] تشير إلى أنه حاصل على بكالوريوس إدارة الأعمال دون توضيح مصدر تلك الشهادة، أو الجامعة التي كان ينتمي إليها، وإنما الشائع حوله هو أنه ليس أكثر من كونه مقرباً من زعيم الجماعة وبحكم المصاهرة العائلية. وربما من اللافت أنّ (الصماد) الذي خلفه (المشاط) كان يعمل مدرساً، وهو أيضاً كان بدون مؤهلات علمية، لكنه لم يحظى بتلك الرتبة العسكرية (المشير)، وهي دلالة أخرى تدعم فَرضية الانتقال المرحّلة من المكون الميليشاوي إلى المكون الهجين في مسار الانتقال المرحلي.
على العكس من ذلك،ـ لدى وزير دفاع الحوثيين، "محمد ناصر العاطفي"، مؤهلات عسكرية واضحة من سيرته الذاتية، كعضو في الجيش السابق. وللمفارقة يتجاوز عمره (المشاط) بأكثر من عقد تقريباً. هذه الصورة في التدرج والهيكل الوظيفي، تعكس نمط الاندماج العسكري المخلّق بشكل استثنائي في الحالة الحوثية "الهجين" من الناحية الهيكلية لاعتبارات سياسية ولائية، وهي صورة يمكن تتبعها في الهيكل العسكري الحوثي بشكل عام، من حيث نظام الترقيات والامتيازات المادية والمالية.. إلخ.
ويعكس هذا الإطار، كيفية تشكيل الوعي لدى القوة (العسكرية) الحوثية، التي لا تمثّل في الأخير العقيدة العسكرية للجيوش التقليدية، فقسم الولاء في المقام الأول هو للمليشيا وزعيمها، وما تنطوي عليه الصرخة، التي تعد ركن أساسي في تلك العقيدة المليشاوية، والتي تعد أحد المؤهلات التي تضيفها المليشيا أيضاً إلى قادتها. على سبيل المثال، كما سلفت الإشارة إلى "المشّاط"، تشير المليشيا إلى أنه "ممن صدحوا بالصرخة"، لتأكيد البعد الولائي للزعيم وللأيديولوجيا. يقابلها على الجانب الآخر بالنسبة للجيوش الولاء للوطن والدفاع عنه حتى الموت، وليس الدفاع عن القادة والزعامات الدينية والسياسية.
خامساً: حالة التسلح
يتضح من العروض العسكرية الحوثية أنّ إجمالي الأسلحة التي أضافتها المليشيا إلى قائمة التسلح اليمني التقليدية، هي عبارة عن مكونين لا ثالث لهما. فهي عبارة عن مركّب من أسلحة استولت عليها من تركة الجيش السابق، وأسلحة إيرانية كالصواريخ والطائرات من دون طيار والألغام. ومن اللافت في العرض العسكري أن أغلبها احتفظ بنفس المسمّيات التي يطلقها الحرس الثوري مثل صواريخ “كرار" و "سعير" و"قدس"، باستثناء صاروخ "صماد"، نسبة إلى رئيس المكتب السياسي للميلشيا صالح الصماد الذي قُتل في عملية نوعية للتحالف عام 2018، وصاروخ "باب المندب" الذي يحمل دلالة رمزية تتعلق بالأهداف الجيوبوليتكية لإيران في الإقليم. وينسحب الأمر ذاته بالنسبة للطائرات المسيّرة "الدرونز" والألغام البحرية المعروفة بانتمائها لترسانة التسلّح الخاصة بالحرس الثوري الإيراني. ويمكن مشاهدة العديد منها لدى وكلاء إيران الإقليميين، بحسب المتطلّبات التي تخدم الأجندة الإيرانية في المقام الأول، ووفق هندسة التسليح التي يشرف عليها الحرس الثوري.
أضافت المليشيا الحوثية للعرض، قائمة من الصواريخ والدرونز والزوارق، وهي قائمة إيرانية كاملة، تعكس مدى قدرة إيران على استمرار إمداد المليشيا الحوثية بالأسلحة. منها على سبيل المثال، بالنسبة للصواريخ، قدّمت 7 أنواع تمثل النسخ الأحدث من ترسانة الحرس الثوري، وهي: صاروخ "حاطم" وهو نسخة مطورة للجيل الرابع من صواريخ "بدر" الإيرانية المصدر، وصاروخ "قدس 3 " وهو صاروخ بعيد المدى، وكذلك صاروخ "فلق" متعدد الرؤوس، و"كرار"، والبحر الأحمر وهو صاروخ حراري، إضافة لصاروخ "محيط" وهو نسخة محدثة من "قاهر"، وعاصف هو أيضاً بحري. فيما قدمت صاروخ "صقر" بمدى 100 كلم للدفاع الجوي قصير المدى للتعامل مع "الدرونز" المضادة. وبحرياً عرضت زوارق عاصف 1،2. وأيضا طوفان 2، 3 الذي يُستخدم لنفس الأغراض الخاصة. وفي الدرونز قدمت أيضاً طائرتي “خاطف 2" لاستهداف المركبات والآليات الأرضية، ومرصاد2.
وبشكل عام تعكس هذه القائمة من الأسلحة، الاتجاه الرئيسي للمليشيا كقوة تهديد إقليمي، وتهديد للملاحة الدولية في الممرات المائية، على التوازي مع الترتيبات الإقليمية والدولية التي تعمل في سياق الحد من طبيعة هذه التهديدات. لكن لا تزال هناك تحديات تواجه هذه الترتيبات في ظل استمرار تدفق الأسلحة الإيرانية على اليمن، الأمر الذي يتطلّب من جانب آخر مراجعة وتقييم آليات التصدي لتنامي التهديدات الحوثية، وهو ما يمكن الإشارة إليه في سياق عدد من النقاط ومنها على سبيل المثال:
· لا يمكن الاكتفاء بالترتيبات الأمنية التي تضطلع بها الولايات المتحدة في منطقة الخليج وبحر العرب والبحر الأحمر مع شركائها الإقليمين، رغم أهمية هذه الترتيبات. لكن بالنظر إلى النتائج يظل هناك حاجة إلى ترتيبات متكاملة على مستوى السياسات الأمنية بشكل عام، إذ لا يمكن القبول بفرض المليشيا الحوثية لسياسة الأمر الواقع بتحويل اليمن إلى بؤرة للتهديد الإقليمي بشكل مستدام لاستنزاف طاقات القوى الوطنية في اليمن، والقوى الإقليمية.
· تم تصنيف المليشيا الحوثية كـ "حركة إرهابية" في عهد إدارة الرئيس الأمريكي السابق "دونالد ترمب"، وتراجعت الإدارة الحالية، لكن في الأخير لم يقد التراجع إلى تحسن ملموس في الأزمة. حتى عملية خفض التصعيد التي تأتي تحت عنوان الهدنة، لا تشكّل متغير جوهري في سياق إعادة تشكيل الحركة الحوثية كحركة وطنية، على العكس من ذلك تثبت باستمرار السياسات الحوثية أنها ضد هذا النهج، وأن مشروعها الفعلي يتعارض مع الثوابت الوطنية.
· لا يمكن لمكون أيديولوجي مغلق، ويتم تحريكه كآلة حرب، التحرر من مسألة التبعية، ومع استدامة الأزمة اليمنية سيتنامى باستمرار هذا الدور، ولا يمكن التصدي له بدون تحسين ورفع كفاءة وقدرات المكون الوطني العسكري، بالإضافة إلى أولوية معالجة تحدي الهوية في سياق المشروع الإيراني الذي تنفذ المليشيا الحوثية أجندته.
في الأخير، يمكن القول إنّ المليشيا الحوثية مهما حازت من إمكانيات عسكرية، فإنّ قدراتها غير قابلة للتطوير. وبصيغة أخرى ستظل المليشيا مليشيا غير قابلة للتحول إلى جيش، لافتقارها للمعايير التقليدية لبنية وهيكل وعقيدة الجيوش الوطنية، كما تكتسب المليشيا قوتها من ضعف الدولة كعلاقة طردية. كلما تم تقوية الدولة ومكوّنها العسكري الوطني، يسحب ذلك بالتبعية من قوة تلك المليشيا التي صممت بالأساس كآلة لإضعاف الدولة.
Previous article
8 Days ago