Claire Harbage/NPR
03-10-2023 at 4 PM Aden Time
الشرعية في اليمن المعاصر لا تقف على أرض صلبة منذ خروج اليمنيين على أنظمة حكمهم التقليدية في ستينيات القرن الماضي (الإمامة في الشمال، والسلطنات في الجنوب). يبحث سياسيو اليمن منذ ذلك الحين على تأسيس مشروعية لحكمهم ولكن سرعان ما يتحول السياسي إلى عسكري وتنفجر الأمور.
سوث24 | بسام سعيد دحي
الهروب من شرعية الجمهورية إلى شرعية الوحدة
ذاعت اخبار الحرب في اليمن في أرجاء المعمورة، وشاع تصورٌ - وخصوصاً لدى المعلقين الغربيين- أن أسباب النزاع في اليمن هي تدخلات جيرانه، عنوانه الصراع الإقليمي بين ضفتي الخليج العربي. وواقع الحال أن اليمنيين بصراعهم هم من يستدعون الخارج وليس الخارج من يحرضهم على القتال، فلدى اليمنيين ما يكفي من الأسباب كي يبدأوا ما يحترفونه أكثر من أي شيء آخر: الحرب. الحرب وسياسة الحرب توغّلت وتغوّلت على أي مجال آخر في اليمن وأصبحت ثقباً أسوداً يجر ليس اليمنيين فقط بل وحتى الإقليم إلى أتونه. المشكلة داخلية في الأساس، والتدخل الخارجي في اليمن ليس مغرياً، بل هو - إن حَدَثَ- أقرب إلى تصفية الحسابات واختبار النفوذ بين الأطراف الخارجية في أرض هي مثالية كي تكون أرض معركة.
وتعود المشكلة في اليمن المعاصر إلى أن الشرعية ومشروعية الحكم لا تقف على أرض صلبة منذ خروج اليمنيين على أنظمة حكمهم التقليدية في ستينيات القرن الماضي (الإمامة في الشمال، والسلطنات في الجنوب). يبحث سياسيو اليمن منذ ذلك الحين على تأسيس مشروعية لحكمهم ولكن سرعان ما يتحول ما هو شأن سياسي إلى شأن عسكري فتنفجر الأمور، وتسيل معه الشرعية وتنجرف، لتبحث عن شرعية جديدة. والحرب الأخيرة ليست خروجاً على هذه القاعدة بل تأكيداً لها. يُنهَك الإنسان والأرض وتتعب الأطراف المتحاربة، فتلوح فرص للسلام، فتجلس الأطراف في موائد المفاوضات، ونكتشف بعدها أننا أمام هُدَن، تطول أو تقصُر، ليس إلاّ، وهكذا دواليك.
تأسست الشرعية في اليمن المعاصر على شرعية النظام الجمهوري في الستينات، وكانت دموية بالطبع، غير أن مصائر شرعية الحكم في اليمن المعاصر تختلف نسبياً بين الشمال والجنوب. فنظام جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في الجنوب استطاع أن يؤسس شرعية أكثر صلابة على انقاض شرعية السلطنات مقارنة بنظام الجمهورية العربية اليمنية في الشمال التي كانت جمهورية متصالحة، نوعاً ما، مع البنية القبلية للنظام الإمامي، أو الشرعية السابقة. هذا التفارق النسبي في الصلابة كان بكُلفة أكبر في الجنوب من الناحية البشرية والاقتصادية فقد اعتمد النظام في الجنوب النهج الاشتراكي، وتحديداً الصيغة السوفيتية للإشتراكية والتي تؤكد على دكتاتورية البوليتاريا والحزب الواحد. لم نر استعادة جادة لشرعية السلطنات في الجنوب بينما رأينا شرعية الإمامة في الشمال تُعاود النمو، وتحديداً في شمال الشمال النائي. وفي كلا الدولتين في الجنوب والشمال، يتم اختبار صلابة شرعية الحكم بين الحين والآخر، بشكل عنيف. فقد انتهى مصير خمسة رؤساء جمهوريين بالقتل واندلعت سلسلة حروب بين الشمال والجنوب تشي بأن "شرعية الجمهورية" غير كافية وإن الطريق يبدو ممهداً - أو هكذا ظن الساسة - لشرعية جديدة هي "شرعية الوحدة"، أي الوحدة بين الشمال والجنوب. كان الإنهاك قد غلب الدولتين في أواخر الثمانينات، اقتصادياً في الشمال، واقتصادياً وسياسياً في الجنوب بعد الأحداث الدموية داخل الحزب الحاكم في يناير 1986، فدخلا في الوحدة في مايو 1990 هرباً وأملاً. أدرك الجنوبيون أن "شرعية الوحدة" قميصٌ واسع وفضفاض يجعلهم يضعيون في الأكثرية السكانية في الشمال.
كما أن الشماليين أدركوا أن "شرعية الوحدة" تحل مشكلة شرعية الحكم لديهم وتقوّي صلابتها الضعيفة أصلاً، فتشارك في الشمال الجمهوريون مع الإسلاميين واجتاحوا الجنوب في صيف 1994 لتأسيس شرعية قائمة على الوحدة، في الوقت ذاته إلغاء شرعية الشريك الحقيقي لهذه الوحدة، وهو الجنوب هنا. بهذا الاجتياج بذروا في الجنوب بذور شرعية جديدة يتم النضال باسمها منذ العام 1994 وهي شرعية الاستقلال عن "شرعية الوحدة"، والتي ستنمو وتكبر وتصبح (المجلس الانتقالي الجنوبي) في عام 2017. في المقابل، "شرعية الوحدة" التي قادها الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح خلال أكثر من عقدين، قبل ان ينتهي به المطاف بالإغتيال عن طريق ورثة المشروع الإمامي (الحوثيون)، فتحت المجال للتخلّي، نوعاً ما، عن "شرعية الجمهورية" وهي فجوة فتحت الطريق للإسلاميين (حزب الإصلاح والجماعات الإسلامية) للتسويق لمفاهيمهم وادبياتهم حول وحدة الأمة، والخلافة الإسلامية، وعدم الإيمان بمشروعية الدولة الوطنية وغيرها. أصبح الحديث عن "شرعية الجمهورية" أقل رواجاً لذا برز بجرأة الحديث علناً عن "شرعية الإمامة" والتي حمل لواءها (جماعة الشباب المؤمن) والتي ستتحول فيما بعد إلى حركة أنصار الله (الحوثيون). قد يُجادل البعض بأن الدولة في صنعاء قد حاربت الحوثيين خلال ستة حروب. هذا صحيح لكنها لم تحارب باسم الجمهورية، فالإستناد إلى "شرعية الجمهورية" كان قد تضاءل وتضاءل بشكل أكبر عندما تحالفت الدولة العميقة في صنعاء مع الحوثيين في لحظة تاريخية في صيف 2014، أي بمعنى تحالفت "شرعية الجمهورية" مع خصومها "شرعية الإمامة"، وبدأت موجة جديدة من الاقتتال لحرب الشرعيات.
حرب الشرعيات: الربح والخسارة
بدأت جماعة "أنصار الله" (الحوثيون)، الحرب الأخيرة بهدف السيطرة على البلاد، وأن تصبح "شرعية الإمامة" البديلة عن "شرعية الجمهورية" المتضائلة. لكن الجماعة لم تنل غير سيطرة على مناطق نفوذها القبلي الاجتماعي والديني المذهبي في الشمال. وتُشير جردة الأرباح على نجاح الحوثيين في ازاحة الرئيس الشرعي السابق عبدربه منصور هادي من صنعاء وفرضها للأمر الواقع، وتنصلها وانسلالها من العقوبة في عملها غير القانوني بالإنقلاب عليه في سبتمبر 2014. والآن باتت الجماعة طرف يتوق للاعتراف به دولياً. شيء من هذا الربح المذكور ناله، وإن بشكل أقل بقايا نظام الرئيس على عبدالله صالح، (حزب المؤتمر- صنعاء)، المتحالفين اسميا مع الحوثيين. وهم في تحالف اضطراري مع الحوثيين، ينأى أعضاء [الحزب] بأنفسهم مرحلياً من مصير قائدهم الرئيس الأسبق علي عبدالله صالح. وفي الوقت الذي يضع حزب المؤتمر الشعبي العام قدما له في السلطة في صنعا مع الحوثيين، يضع القدم الأخرى في سلطة مجلس القيادة الرئاسي وريث شرعية الرئيس السابق عبدربه منصور هادي، وهو ما يجعله المكون اليمني الوحيد الذي يملك صورة بانورامية عن ما حدث وذلك لوجوده في كلا الطرفين. خسارة حزب المؤتمر في هذه الحرب تكمن في انقسامه كحزب سياسي متمرّس في الحكم والسياسة وربما تبزع له فرصة ليجتمع جسده كاملاً، وتنشيط فعاليته في الشمال بدل تشتيت قواه، في ظل غياب هيكل سياسي لجماعة الحوثيين.
في الطرف الآخر مباشرةً، يقف مجلس القيادة الرئاسي أو (الشرعية) التي تستمد هذا المسمى من وراثتها لشرعية الرئيس الأخير لليمن الموحّد عبدربه منصور هادي. خسر هذا الطرف العاصمة صنعاء، كما أن مكوناته أظهرت منذ البدء أنها ليست على وفاق، و أن ما يجمع مكنوناته هو محاربة الحوثيين. وهذا ظهر جلياً في حالة الاختلال الأمني والخدماتي في المناطق "المحررة"، وخصوصاً، في العاصمة المؤقتة لـ "الشرعية"، عدن. يمتلك هذا الفريق ورقة "الشرعية" القوية وهي التي جعلت مكوناته تتجمّع حولها على مضض، وهم: المؤتمريون (حزب المؤتمر- الشرعية)، الإسلاميون (حزب الإصلاح)، الجنوبيون (المجلس الإنتقالي الجنوبي)، وهي مكونات متضادة الغايات في عملها السياسي ونظرتهم متباينة حول مفهوم الشرعية. المكسب الرئيس لهذا الطرف في الحرب هو السيطرة على حوالي ثلثي البلاد، وعدم تمرير المشروع الحوثي في حكم كل البلاد. كما أن هذا الطرف اكتسب علاقات دولية كبيرة في فترة الحرب والترويج لنفسه للإقليم والعالم، الشيء الذي لم يحظ به الحوثيون.
كلما طال الوقت، ستزيد حدة المتناقضات بين مكونات الأطراف السياسية وستُجبَر كل المكونات على إعادة حساباتها وفقاً لفهمها الخاص لمفهوم شرعية الحكم، مما سيجعل (الشرعية) في حالة سيولة يشكلها صراع القوى السياسية المتنافسة كالمعتاد. فالحلف بين (الحوثي) و(حزب مؤتمر – صنعاء) سيكون الأول في التعرّض للاهتزاز والانفصام بل والاقتتال، فالاختلافات تنتهي بصراع مسلّح في اليمن السعيد كما تثبت التجربة في اليمن المعاصر، ولا يوجد آلية لإدارة الاختلافات مما يرجّح هذا الاحتمال. ومن المحتمل جداً أن يرجع فصيلا المؤتمر لبعضهما البعض وتدور المواجهة العسكرية مع الحوثيين تحت راية شرعيات قديمة متجددة: "شرعية الجمهورية" بالضدية مع "شرعية الإمامية" كما حدث في ستينيات القرن الماضي.
أما حزب الإصلاح فخسارته كبيرة. فقد خسر أولاً نصف سلطته في صنعاء بعد تمرده على شريكه في الحكم، الرئيس علي عبدالله صالح في عام 2011، ثم خسر النصف الاخر عام 2014 بعد احتلال الحوثيين لصنعاء، وخسر نفوذه الواسع في الشرعية [الحكومة المعترف بها دوليا] بعد إبدال الرئيس السابق عبدربه منصور هادي بمجلس قيادة رئاسي يضم 3 من قادة المجلس الانتقالي الجنوبي، وهم خصومه في الجنوب. سيستمر حزب الإصلاح في مَوضعة نفسه تحت "شرعية الوحدة" وهي التي تتيح له التحرك بشكل واسع. ففي فترة الحرب كان أكثر ميلاً للتأكيد على الشق "الوحدوي" من الشرعية، الشيء الذي جعله في تصادم مع المجلس الانتقالي في الجنوب. أما الانتقالي الجنوبي أحد أكبر الرابحين في الحرب الأخيرة، فسيستمر في تأسيس شرعيته الخاصة به ومواصلة حملته لبسط نفوذه في الجنوب وتعزيز مطالب الاستقلال واستعادة دولته ومطاردة الجماعات الإرهابية التي انتشرت عقب غزو نظام صنعاء أراضي الجنوب بتحالف مؤتمري/إصلاحي عام 1994. الجدير بالذكر، أن التركيز على محاربة الجماعات الإرهابية سيجعل من المجلس الانتقالي الجنوبي موضع ثقة من الإقليم والمجتمع الدولي، في ظل غياب الدور الدولي في مكافحة الإرهاب في جنوب الجزيرة العربية وتخوم الممرات البحرية الدولية.
Previous article