اجتماع الرئيس دونالد ترامب وفريق الأمن القومي في غرفة العمليات بالبيت الأبيض (رسمي)
Last updated on: 10-12-2025 at 11 AM Aden Time
"الوثيقة الأخيرة التي أصدرها البيت الأبيض لا تعيد ترتيب الأولويات الجغرافية فقط، لكنها أيضاً تعلن بوضوح أنّ مركز الثقل الاستراتيجي يتجه بعيداً عن الشرق الأوسط.."
مركز سوث24 | محمد فوزي
أصدر البيت الأبيض في 5 ديسمبر الجاري، وثيقة "استراتيجية الأمن القومي الأمريكي" للعام 2025، وهي وثيقة تتكون من 33 صفحة، رسمت معالم ورؤية واشنطن تجاه أولويات الأمن القومي. وقد ارتبطت أهمية هذه الاستراتيجية ببعض الاعتبارات الرئيسية، خصوصاً ما يتعلق برؤية إدارة "ترامب" لأولويات الأمن القومي بعد قرابة عام من عودة الرجل إلى البيت الأبيض، فضلاً عن ما اتسمت به هذه الاستراتيجية من حيث إعلاء مبدأ "أمريكا أولاً"، وصولاً إلى ما يمكن وصفه بالموقف الصدامي مع الاتحاد الأوروبي. وفي هذا الإطار تقدم هذه الورقة قراءة في الاستراتيجية، خصوصاً فيما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط، وأبرز الدلالات التي عبرت عنها الوثيقة الصادرة عن البيت الأبيض.
أولاً- الشرق الأوسط في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي
ركزت استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة على مجموعة من الاتجاهات الرئيسية، لا سيما ما يتعلق بإعادة صياغة الدور العالمي للولايات المتحدة، وترتيب رؤية إدارة "ترامب" لأولويات الأمن القومي، وإظهار "ترامب" باعتباره صانعاً للسلام العالمي، مع محاولة إحياء مبدأ مونرو لتعزيز النفوذ الأمريكي في أمريكا اللاتينية. كما تسعى إلى الحد من الهجرة غير الشرعية، والحد من توسع حلف الناتو بما يضمن مصالح الولايات المتحدة. وتظهر الاستراتيجية توجهاً نحو معاملة الصين بالمثل في القضايا التجارية والسياسية، مع تبني نهج أكثر حذراً في التعامل مع روسيا (رغم أنّ روسيا رحبت بالاستراتيجية واعتبرت أنها أسقطت وصف روسيا بالتهديد). وفيما يتعلق بملف الشرق الأوسط، يمكن تناول أبرز الاتجاهات التي حملتها الاستراتيجية في ضوء الآتي:
1- تجنب الانخراط في صراعات طويلة الأمد: أشارت الاستراتيجية في أحد محاورها إلى السعي لتعزيز مكانة الولايات المتحدة على المستوى الدولي، مع تجنب الانخراط في صراعات طويلة الأمد، مع التركيز فقط على التحديات التي تمثل تهديداً مباشراً لمصالح واشنطن وأمنها. وهي مسألة حتى وإن لم تحمل إشارة مباشرة إلى منطقة الشرق الأوسط، إلا أنها حملت إسقاطاً ضمنياً على قضايا المنطقة، على اعتبار أنّ الشرق الأوسط يشهد صراعات ممتدة وطويلة الأمد منذ ما عُرف بأحداث الربيع العربي.
2- نقل مركز الثقل الاستراتيجي من الشرق الأوسط: تعريجاً على العامل السابق فإنّ الوثيقة الأخيرة التي أصدرها البيت الأبيض لا تعيد ترتيب الأولويات الجغرافية فقط، لكنها أيضاً تعلن بوضوح أنّ مركز الثقل الاستراتيجي يتجه بعيداً عن الشرق الأوسط وتحديداً نحو أمريكا اللاتينية. حيث ترى الإدارة أنّ التهديدات الأكثر اتصالاً بأمنها الداخلي تتشكّل وتمتد في جوارها الجغرافي، ولعل ذلك يحمل إشارة إلى التهديدات المرتبطة بتنامي موجات الهجرة غير الشرعية إلى الولايات المتحدة، وشبكات الجريمة العابرة للدول، وتنامي نفوذ قوى دولية منافسة في أمريكا اللاتينية. وهي كلها متغيرات تمثّل للإدارة الأمريكية تهديداً مباشراً لأمنها القومي، كما أنها عوامل تساهم في تراجع مكانة الشرق الأوسط في استراتيجيات الأمن القومي الخاصة بالولايات المتحدة في عهد "ترامب".
3- استمرار الشراكات الإقليمية ودعم الاستقرار: حتى وإن ذهبت العديد من التقديرات إلى تراجع أولوية الشرق الأوسط في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة، إلا أنّ هذا التراجع لا يعني عملياً تخلي واشنطن عن المنطقة، بقدر ما أنها تتجه نحو إعادة تعريف علاقاتها بها عبر عدة محاور، خصوصاً ما يتصل باستمرار الشراكات الأمنية والاقتصادية، ودعم استقرار الإقليم، مع تقليص واضح للانخراط المباشر أو الالتزامات الضخمة التي ميّزت حقبتي ما بعد الحرب الباردة (1991-2001) والحرب على الإرهاب (2001 إلى الآن). ويأتي هذا التحول انعكاساً لتراجع أهمية البترول العربي في المعادلة الأمريكية، وللانخفاض الملحوظ في الشهية الأمريكية تجاه التدخلات العسكرية بعد تجارب مكلفة ومحبِطة.
4- إشارة إلى تراجع النفوذ الإيراني: أشارت الوثيقة الخاصة باستراتيجية الأمن القومي الأمريكي، إلى أنّ منطقة الشرق الأوسط كانت بؤرة صراعات تهدد بالامتداد إلى بقية دول العالم وحتى إلى الأراضي الأمريكية". وهنا تشير الاستراتيجية إلى وجود نزاع، ولكنه بات أقل مما يوحى به المشهد الإعلامي، والفضل وفقاً للوثيقة لحالة الضعف التي باتت عليها إيران كمصدر لزعزعة الاستقرار في الإقليم، وهو ضعف شديد حدث بفعل "العمليات الإسرائيلية منذ 7 أكتوبر 2023، وبفعل عملية مطرقة منتصف الليل، الأمريكية في يونيو 2025، التي أدت إلى تراجع كبير في برنامجها النووي".
5- إشارات مبهمة للقضية الفلسطينية وسوريا: ذكرت الوثيقة القضية الفلسطينية باعتبارها "قضية معقدة"، فتحرير الرهائن ووقف إطلاق النار في غزة الذي تفاوض عليه ترامب ساهم في فتح باب نحو تهدئة أطول أمداً، كما "تراجع داعمو حماس وأعادوا حساباتهم". وتظل سوريا "مصدر قلق محتملاً، لكنها قد تستعيد استقرارها ودورها الطبيعي بدعم أمريكي–عربي–إسرائيلي–تركي".
6- التخلي عن نهج تغيير النظم بالقوة في المنطقة: أشارت وثيقة الأمن القومي الأمريكي الأخيرة إلى نقطة شديدة الأهمية فيما يتعلق بمنطقة الشرق الأوسط، تتمثل في تخلي الولايات المتحدة، أو بالأحرى إدارة ترامب عن مبدأ تغيير النظم القائمة في الإقليم بالقوة أو من خلال الضغوط المكثفة، وإقرار حق الدول في أن يكون لها الحرية في إقامة نظمها الخاصة في الحكم. ما يهم واشنطن هو استقرار تلك الدول واستمرار تعاونها. ووفقاً للوثيقة، "فإنّ دول المنطقة تظهر التزاماً أكبر بمكافحة التطرّف، وهو منحى يجب على السياسة الأمريكية دعمه، والتخلي عن النهج الذي حاول دفع هذه الدول إلى تغيير تقاليدها وهياكلها السياسية. فالإصلاح يجب أن يُشجَّع عندما ينشأ من الداخل، لا أن يُفرض من الخارج". إذ أنّ "جوهر العلاقة الناجحة مع الشرق الأوسط، يكمن في التعامل مع دوله وقادته كما هم، والعمل معهم في مجالات المصالح المشتركة".
7- المصالح الأمريكية الأساسية بالمنطقة: أشارت الوثيقة بشكل واضح إلى استمرار مصالح أساسية للولايات المتحدة في "موارد الطاقة، وفي بقاء مضيق هرمز مفتوحاً، والبحر الأحمر آمناً للملاحة، ومنع المنطقة من أن تصبح حاضنة للإرهاب الذي قد يهدد مصالح واشنطن أو أمنها الداخلي، إضافة إلى ضمان أمن إسرائيل"، مع الإشارة إلى أنه يمكن "تحقيق ذلك، فكرياً وعسكرياً، من دون الوقوع مجدداً في مستنقع حروب بناء الدول، التي أثبتت إخفاقها لعقود". كما أنّ "توسيع اتفاقيات أبراهام، لتشمل دولاً جديدة في المنطقة والعالم الإسلامي، يظل مصلحة أمريكية مهمة" وفقاً للوثيقة.
ثانياً- تفسير تراجع أولوية الشرق الأوسط بالنسبة لإدارة "ترامب"
عبرّت كافة المؤشرات السابق الإشارة إليها عن تراجع نسبي في أولوية منطقة الشرق الأوسط في إطار استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الصادرة حديثاً، وهو أمر يرتبط بترتيب إدارة "ترامب" لأولوياتها ويمكن تناول أبرز الأسباب التي دفعت باتجاه هذا التراجع في ضوء الآتي:
• يبدو أنّ تراجع منطقة الشرق الأوسط كأولوية في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة، يأتي في أحد أبعاده كنتاج لاعتبار مفاده أنّ المنطقة لم تعد المورد الأساسي للطاقة، فالولايات المتحدة أصبحت مُصدراً للنفط، ولديها سياسات طاقة جديدة نووية وتقليدية ستؤمن لها احتياجاتها ذاتياً، وليس من الشرق الأوسط كما كان سابقاً.
• في ظل حالة الاستنزاف الروسي في الحرب الأوكرانية والصراع مع الجانب الأوروبي، فإن منطقة الشرق الأوسط لم تعد ساحة للتنافس بين القوى العظمى، فعلى أقل تقدير هي ساحة للتنافس بين بعض القوى المتوسطة أو الكبرى في النظام الدولي، وهو مستوى ترى فيه الإدارة الأمريكية أنه لا يمثل تهديداً جوهرياً لها.
• يبدو أنّ الإدارة الأمريكية في طريقها حالياً لتبني أولويات جديدة في مسألة الأمن القومي، تقوم بشكل رئيسي على التركيز على الداخل، ثم الجوار المباشر، ثم المنافسة مع القوى الكبرى المناوئة. ولعل تهديدات الهجرة غير الشرعية القادمة إلى الولايات المتحدة، فضلاً عن تنامي النظم المناوئة لواشنطن في أمريكا اللاتينية هي عوامل ساهمت في هذه الرؤية، على غرار المسألة الفنزويلية الحالية، والضغوط الأمريكية على الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، للقبول بصيغة خروج آمن خلال فترة زمنية محدودة، بما يعكس حجم الاهتمام الذى توليه واشنطن للملف اللاتيني، وبما يشي بأنّ الرؤية الأمريكية ترى أنّ تأمين أمريكا اللاتينية هي خطوة أساسية لتأمين الداخل الأمريكي.
• أدى الانخراط الأمريكي الكبير في حروب ممتدة في منطقة الشرق الأوسط، إلى استنزاف كبير للاقتصاد الأمريكي، فضلاً عن تداعيات سلبية على صورة واشنطن في العديد من الأوساط العالمية، ما تجسد في حالة الحرب الأخيرة في قطاع غزة، وما أتبعها من تداعيات على المنطقة. وهي التداعيات التي انخرطت فيها الولايات المتحدة بشكل مباشر في بعض الحالات، كما في حالة ميليشيا الحوثي في اليمن، أو في حالة الضربات التي تم توجيهها لإيران. وفي ظل حالة الضعف الراهنة لإيران وأذرعها في المنطقة، ربما ترى الإدارة الأمريكية أنّ تقليل الانخراط في صراعات منطقة الشرق الأوسط سيكون أمراً مهماً على مستوى تقليل النفقات، فضلاً عن التركيز على الأولويات الملحة التي ترى فيها واشنطن أنها تمثل تهديداً مباشراً.
إجمالاً يمكن القول، إنّ الاستراتيجية الأخيرة للولايات المتحدة في مجال الأمن القومي حتى وإن دفعت باتجاه تراجع مركزية الدور الأمريكي في الشرق الأوسط؛ إلا أنها لا تعني غيابه الكامل. إذ سوف تحرص واشنطن على تأمين مصالحها الاستراتيجية في المنطقة، خصوصاً فيما يتعلق بأمن إسرائيل، وتأمين طرق التجارة، والمصالح الاقتصادية، والسعي لتوسيع مظلة الاتفاقات الإبراهيمية لتشمل أطرافاً جديدة، مع الحرص على الاعتماد على بعض الحلفاء من أجل ضمان عدم توسع نفوذ القوى المناوئة لواشنطن، بما يعني أنّ واشنطن سوف تُلقي على الحلفاء مسؤولية الحفاظ على كافة هذه المصالح المشتركة.
Previous article