سفراء أوروبيون خلال زيارة لعدن في قصر معاشيق بكريتر، 2 يونيو 2022 (رسمي)
18-06-2022 الساعة 11 صباحاً بتوقيت عدن
سوث24 | فريدة أحمد
أُقيمت في العاصمة الفنلندية "هلسنكي"، مشاروات "جنوبية بينية" لأول مرة بإشراف من معهد مارتي أهتيساري للسلام (CMI)، وهو تحوّل يبدو لافتاً في السياسات التي تتبعها بعض المعاهد الأوروبية مؤخراً، لا سيما وهي كانت تلعب دوراً أقرب للسلبي تجاه الجنوبيين، بناءً على سرديات ما يصلها من بعض خصومهم من الأطراف اليمنية الأخرى عن عدم قدرة القوى الجنوبية على الاجتماع أو التوافق، بالذات المطالبة باستقلال جنوب اليمن عن الشمال، ومحاولة تصدير هذه الأطراف ومراكز بحثية موالية لها صورة أكثر قتامة عن الوضع في الجنوب.
من الواضح أن المعهد الفنلندي حقق سابقة أوروبية تستحق الإشادة والثناء، لما لهذه الخطوة من أهمية وفقاً لعاملين. الأول، أنها أول دعوة لجنوبيين فقط دون غيرهم منذ حرب 1994 على الجنوب وما تلا ذلك من إرهاصات أدت لنشوء قضية الجنوب والحراك السلمي. والثاني، استيعاب التغيّرات الحاصلة على الأرض، بما يمثله ذلك من استحقاقات سياسية وعسكرية جنوبية بعد 2015، وإدراكهم لأهمية إيجاد صيغ ورؤى جنوبية مشتركة بالقدر الذي يشكله أهمية إيجاد نقاط توافق بين مختلف القوى اليمنية قبل الذهاب لسلام شامل.
بموازاة ذلك، كان المعهد الأوروبي للسلام يقدم دعوات لورش عمل بين الحين والآخر لجنوبيين خلال السنوات السابقة، تصب في إطار دعم منظمات المجتمع المدني والتحديات التي تواجهها من أجل تعزيز السلام في اليمن، غير أنها لم تنجح في فتح حوارات جنوبية من أجل طرح حلول تحدد شكل الدولة في المستقبل. لذا، يبدو أن ما قام به المعهد الفنلندي خطوة منفتحة ومتقدمة، وربما تفتح طريقاً لباقي المنظمات الأوروبية الأخرى لمنح مساحة كافية للجنوبيين والاستماع لرؤاهم بهذا الخصوص.
في حقيقة الأمر، كان المجلس الانتقالي الجنوبي، ذو النفوذ الأوسع في جنوب اليمن، قد وجّه دعوة سابقة منتصف العام الماضي، لحوار "جنوبي بيني"، هدف التوصل إلى صيغ عمل وقواسم مشتركة تحدد مستقبل الجنوب. ومن أجل ذلك، أنشأ لجنة خاصة تتواصل مع مختلف القيادات والأطياف الجنوبية يرأسها الوزير السابق وعضو هيئة رئاسة المجلس الانتقالي"مراد الحالمي"، والمسؤول في المجلس الانتقالي الجنوبي، المقيم في أوروبا، "أحمد عمر بن فريد". قامت اللجنة المكلّفة بعشرات اللقاءات وقرّبت وجهات نظر بين كثير من القوى الجنوبية، حتى من لا يتفقون بصورة كاملة مع النهج السياسي للانتقالي الجنوبي. وعلى الرغم من النتائج المشجّعة لعمل اللجنة، غير أن العمل يبدو مازال بحاجة لجهد حثيث، إذ لوحظ أنهم استفادوا من مشاورات الرياض الأخيرة في إبريل، لعقد عدد من الزيارات واللقاءات مع جنوبيين تواجدوا هناك، وصبت جميعها في هذا الإطار.
من الواضح أن الورشة الأخيرة في فنلندا، تحاول استقصاء الآراء الجنوبية عن شكل الدولة المتوقع، مع وضع تصورات ونماذج لدول أخرى خاضت تجربة الحكم المحلي، وليست إطاراً تفاوضياً لتقديم حلول سياسية، حسب ما غرّد "أحمد بن فريد" على صفحته بتويتر[1]، وهو أحد المدعوين للمشاركة في هذه الورشة. هذا الأمر ربما يساهم بتعزيز ما بدأوه من حوار مع القوى الجنوبية المختلفة، وإيجاد صيغة توافقية حول شكل الدولة في المستقبل من أجل سلام مستدام في اليمن، خاصة وأن نسبة كبيرة من الجنوبيين مازالت تتمسك بحق "استعادة الدولة"، منها كيانات وأحزاب سياسية جنوبية بارزة.
من فعاليات اللقاء التشاوري للأطراف الجنوبية وورشة العمل في هلسنكي، 15 يونيو 2022 (تويتر)
قبل مفاوضات السلام
من المهم القول، أن إصرار المجلس الانتقالي الجنوبي على ترتيب حوار جنوبي بيني قبل بدء مفاوضات سلام شاملة مع القوى اليمنية الأخرى، يشكل أهمية بالغة في تشكيل جبهة وطنية متوافقة، ويعكس رؤى المجلس المنفتحة مع بقية الأطراف في الجنوب، رغم أنّ المجلس هو القوة الأكثر حضورا على الصعيد السياسي والجماهيري والعسكري. برزت هذه المساعي بصورة أكبر من خلال إصرار الجنوبيين على إدراج "قضية شعب الجنوب" ضمن مخرجات مشاورات الرياض التي رعاها مجلس التعاون الخليجي في إبريل المنصرم، على أن تكون ضمن أجندة مفاوضات وقف الحرب في اليمن ضمن إطار خاص.
ومن الناحية الواقعية، يرى جنوبيون أن مسألة الحوار الجنوبي البيني والبدء في نقاش رؤى وحلول جاهزة بشأن مستقبل الجنوب، وتقديم هذه الحلول كمشاريع في سياق مفاوضات عملية السلام الشاملة، هو أفضل من أن يتم النقاش حولها لاحقاً ووضعها في سياق مفتوح زمنياً، الأمر الذي يسمح بإضاعة الوقت وربما فتح الباب للجدل والتباينات. لذا، على الأرجح أن حوار جنوبي بيني مستقل، وكذا حوار شمالي بيني مستقل، ربما يشكّل خطوة عملية وأكثر منطقية، قبل الدخول في حوار شامل بين الأطراف اليمنية بمختلف توجهاتها من أجل تحقيق السلام في اليمن. لذا، من المهم أن تجد هذه القوى مساحات وفرص أوسع للاستماع والاستيعاب، وفقاً للمتغيرات السياسية والعسكرية الراهنة.
لقد حاول الجنوبيون التعبير عن آراء مشتركة بشأن قضية الجنوب في أكثر من محفل، يشي معظمها بإيجاد حلول جذرية عادلة للشعب في جنوب اليمن، بعد فشل الوحدة اليمنية بين دولتي الجنوب والشمال. وليست ثمة مبالغة في القول إن المجتمع الدولي تعامل مع الأزمة اليمنية في حرب 1994 كأمر واقع، واكتفى بالتعبير عن بالغ قلقه من إيذاء المدنيين الأبرياء الفاجع، عبر قرار مجلس الأمن (924) الصادر في 1 يونيو 1994.[2] ومع استمرار الممارسات القمعية للجنوبيين من قتل وعنف واعتقال ونهب لمقدرات جنوب اليمن التي انتهجها النظام اليمني السابق، أدى ذلك تدريجياً لإدخال الجنوبيين في عزلة قسرية، قلّصت من تواصلهم مع دوائر صنع القرار في الإقليم والمجتمع الدولي، لا سيما ونظام "صالح" سعى لاستخدام الجنوب فزّاعة لتخويف الغرب؛ نظرا لاتخاذ جماعات متطرّفة في عهده مناطق في الجنوب ساحة لتنفيذ عملياتها "الإرهابية".
كما أنّ محاولة التضخيم من مسألة الصراعات بين الكيانات السياسية الجنوبية، وغض الطرف عن الصراعات المتجذّرة بين الكيانات السياسية والحزبية في الشمال، فيه من المبالغة للدرجة الذي يسهم ذلك بدفع الغرب في الإحجام عن التعامل مع الجنوبيين. إذ يبدو أن هناك ثمة اعتقاد لدى بعض صناع القرار الغربيين، أن التعامل مع الجنوبيين سيمنحهم وعوداً بشأن الاستقلال، لذا يفضّل البعض منهم تجنب التواصل معهم بشكل مباشر. على الرغم من أنّ الجنوبيين يبحثون عن داعم خارجي يكون أكثر انفتاحاً واستيعاباً للرؤى والأفكار التي يطرحونها كحلول لأزمة الوحدة اليمنية، وأن استمرار إهمال المجتمع الدولي لهذه الأصوات سيؤدي بالضرورة للمزيد من دورات العنف في اليمن.
الموقف الأوروبي مع الجنوبيين
بالنسبة للدول الأوروبية ومنظماتها الداعمة للسلام في اليمن، فإن بقاء المقاربات ذات الأحكام المسبقة عن الجنوبيين في عدم وجود من يمثلهم أو في استحالة اتفاقهم وكأنها حقائق مطلقة، مع تجاهل المعطيات الجديدة ذات التأثير على المستويين الداخلي والخارجي، يجعل من هذه المنظمات متأخرة وأقل إدراكاً للمتغيرات، مما يؤثر على سير عملها الرامي للسلام في اليمن. خصوصا وأنّ الجنوب اليوم أصبح أكثر تماسكا من ذي قبل على نواحي عدة.
كذلك هناك معظلة اعتماد الدول الأوروبية عبر هيئاتها وآلياتها النشطة في اليمن، على مراكز أو منظمات يمنية بعينها، لتقديم آراء ودراسات مبنية على قراءات منحازة للأفرقاء السياسيين من خارج الجنوب، يجعلها بلا شك تنحاز لرؤى هذه المنظمات. وهذه إشكالية يجادل بشأنها كثير من الجنوبيين، في أن هناك قصور في فهم أبعاد أزمة الوحدة اليمنية والديناميكيات التي قامت عليها، مما يتعين على صناع القرار الأوروبيين توفير الدعم والآليات المناسبة لاحتواء القضايا الرئيسية في اليمن، وفي مقدمتها قضية الجنوب، بما في ذلك الانصات لكياناتها ونخبها السياسية والعسكرية والاجتماعية.
ينبغي القول، أن الدور الأوروبي الداعم للجنوبيين قليل جداً ومحدود، ويعتمد في مجمله على رؤى منظمات ونخب يمنية تتبنى مواقف مسبقة وثابتة بشأن الجنوب، أو في المقابل، تعتمد على أفكار شخصيات بدون مشروع سياسي ودون تأثير مباشر على المشهد أو صنّاع القرار. لذا من غير المفاجئ أن نشهد نوعاً من الانحياز في بعض المواقف الغربية أو نوعاً من التماهي مع بعض المنظمات اليمنية التي ترتبط معها بمصالح. على سبيل المثال، أدى إصدار البنك المركزي اليمني بياناً يستنكر الاتهامات التي وجهت لقيادته بمحاولات نقل البنك المركزي إلى صنعاء[3]، إلى أن تغرّد بعثة الاتحاد الأوروبي في اليمن بالقلق الشديد إزاء الحملة ضد البنك المركزي[4]، وعبرت بالمثل أمريكا وبريطانيا وفرنسا على ضرورة احترام استقلالية البنك المركزي.
جاء هذا الرد بناء على ما أصدره المجلس الانتقالي الجنوبي من بيان في اجتماع له قبل أيام، مؤكداً على أهمية ورمزية البنك المركزي كمؤسسة سيادية للدولة، وأن المساس به أو نقل وظائفه كلياً أو جزئياً خارج العاصمة عدن المعترف بها دولياً، يعد مساساً بسيادة الدولة، واتهم البيان، عناصر مشبوهة في إدارة البنك من محاولات سعيها لنقل البنك إلى مناطق سيطرة الحوثيين[5]. غير أن نشطاء جنوبيين جادلوا أن البيانات الغربية اللاحقة كانت منحازة نوعاً ما، ولم تمنح فرصة للطرف الآخر التعبير عن وجهة نظره عن الأسباب التي قادت لهذا البيان. ورجّحت أن الأطراف اليمنية التي ذهبت مسارعة لاستخراج مواقف أوروبية بهذا الشأن، كان لديها نوايا مسبقة فعلياً بنقل البنك المركزي، وتحاول إضعاف الموقف السياسي للانتقالي الجنوبي قبيل البدء بمناقشة نقل البنك إلى صنعاء ضمن الشروط التي يضغط الحوثيون لانتزاعها لصالحهم.
إن توظيف مصطلح "احترام استقلالية البنك المركزي" للتأثير على الموقف الأوروبي تجاه هذه القضية كان توظيفاً مضللاً، كون موقف الانتقالي الجنوبي لم يمس استقلالية السياسة النقدية لإدارة البنك ولم يتطرّق لها أو يشر إليها حتى بالانتقاد. إذ أشار البيان إلى مساعٍ لأطراف داخل البنك (وليس البنك) يستغلون وظيفتهم لتسهيل الوصول إلى أمر واقع سياسياً، وهو القبول لاحقاً بالضغوط الحوثية لنقل المقر الرئيسي للبنك من عدن إلى صنعاء. وهذا قرار بالطبع لا يندرج أصلاً ضمن صلاحيات إدارة البنك إطلاقاً باعتباره قراراً سياسياً سيادياً يتجاوز أي صلاحيات ممنوحة دستورياً وقانونياً للبنك الذي يتمتع باستقلالية في إدارة السياسة النقدية فقط، وتقتضي هذه الاستقلالية عدم تأثير الممارسة الوظيفية داخل البنك على ترجيح الكفة السياسية لطرف سياسي معين أو إقحام البنك في قضايا السلام والحرب والتسوية السياسية؛ وهو ما أشار إليه بيان الانتقالي الجنوبي.
بطبيعة الحال، يمكن لنا فهم المحاولات الأوروبية وجهودها في إطار حلول السلام في اليمن، أن معظمها ينبثق من التركيز على قضايا ربما تكون ثانوية على حساب قضايا رئيسية وجوهرية، منها قضية الجنوب. إذ أن توجيه الاهتمام نحو الصورة الكاملة للمشهد المتأزم وأسبابه وجذوره، مع توفير الدعم المادي والاستراتيجي للقوى الجنوبية بشكل مباشر وليس عبر قنوات يمنية وسيطة، من شأنه أن يُسهم في تهيئة ظروف مواتية لسلام مستدام في اليمن. كما أن تعزيز دعم المنظمات الأوروبية للحوار مع الجنوبيين مع فهم أوسع لأبعاد الحلول التي يطرحونها بشأن الأزمة اليمنية منذ اتفاقية الوحدة، سيخلق نوعاً من التوازن بين الأطراف اليمنية، ويضمن أن يحصل الجميع على فهم واستماع عادلين.
مراجع:
[1] تغريدة للمسؤول في الانتقالي الجنوبي، أحمد عمر بن فريد، 16 يونيو 2022، (تويتر)
[2] Resolution 924 (1994) / (un.org)
[3] بيان صحفي صادر عن البنك المركزي عدن (cby-ye.com)
[4] تغريدة لبعثة الاتحاد الأوروبي في اليمن، 16 يونيو 2022،(تويتر)
[5] هيئة الرئاسة تؤكد رفضها القاطع لأي محاولات بائسة تستهدف البنك المركزي بالعاصمة عدن (stcaden.com)