السفن تبحر عبر رأس الرجاء الصالح بسبب تهديدات الحوثيين (رويترز)
09-01-2024 الساعة 2 مساءً بتوقيت عدن
سوث24 | د. إيمان زهران
في ظل تصاعد حالة "اللا- يقين" لمستقبل طوفان الأقصى، والهجمات الإسرائيلية المتتالية على قطاع غزة على نحو ما يُنذر بتفاقم الأوضاع الحرجة سياسياً وأمنياً وإنسانياً، تصاعد بالمقابل ما يُعرف بنمط "عسكرة الممرات البحرية"، وذلك بالنظر إلى تصريحات وتحركات جماعة الحوثيين اليمنية في البحر الأحمر منذ نوفمبر الماضي، واستهدافها حركة الشحن الحيوية بمضيق "باب المندب". وبالرغم من تأكيد الجماعة أنها تستهدف السفن المرتبطة بإسرائيل، وأنها لا تستهدف الملاحة الدولية، إلا أن ذلك ترك تأثيراً واضحاً على حركة السفن في المنطقة، لا سيما مع تنوع السفن التي تم استهدافها عبر صواريخ وطائرات مسيرة ما بين سفن ناقلة للسلع وأخرى ناقلة للنفط.
ومع ارتفاع وتيرة التصعيد، أطلقت الولايات المتحدة في 19 ديسمبر 2023 عملية "حارس الازدهار"، لتضم عدداً من الدول بهدف استحداث ممر آمن للتجارة العالمية في البحر الأحمر، بعدما دفعت الهجمات الحوثية العديد من شركات الشحن البحري للاستدارة بمسلك طريق رأس الرجاء الصالح دون النظر للأعباء المادية والأمنية. ذلك على نحو ما قد يُعيد ترتيب أوراق حركة التجارة العالمية وفقاً للرهانات القائمة والتحديات المستقبلية، وارتدادات ذلك على الأوجه الاقتصادية المتباينة إقليمياً ودولياً بالنظر إلى النقاط التالية:
الأهمية الجيوسياسية لـ "باب المندب"
كثيراً ما تناولت العديد من الدراسات السياسية والاستراتيجية الأهمية النوعية لـ "باب المندب"، وذلك بالنظر إلى الأهمية القصوى التي يكتسبها مضيق باب المندب مقارنة ببقية المضائق البحرية الدولية الأخرى وفقاً لعدد من الاعتبارات، أبرزها:
- يُعد "باب المندب" أحد المفترقات الهامة ونقطة التقاء حاسمة بالنسبة لحركة التجارة الدولية، فمعظم التجارة ما بين كل من الاتحاد الأوروبي من جهة، والصين واليابان والهند وقارة آسيا ككل من جهة أخرى تمر عبر المضيق.
- يُعتبر المضيق ممراً رئيسياً لأكثر من 30% من حركة النفط العالمية خاصة من منطقة الخليج العربي وإيران.
- يعتبر ممراً بديلاً عن "رأس الرجاء الصالح - Cope of Good Hope" بجنوب إفريقيا الذي يُلقي عبئاً على التجارة الدولية من حيث بُعد المسافة وكذا التكلفة المالية.
اتساقاً مع الأهمية النوعية لذلك المضيق، فإن باب المندب من ضمن أكثر الممرات البحرية تعرضاً لعدة تهديدات أمنية مختلفة بالنظر إلى عمليات القرصنة البحرية، أو تلك المتعلقة بالنزاعات والحروب الدائرة بالمنطقة وارتداداتها على أمن الممرات البحرية وحركة التجارة العالمية، مثل حالة الحرب الدائرة في اليمن، والتأثيرات المتباينة لعملية طوفان الأقصى وهجمات جيش الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، وما أسفر عنها من اتساع جبهات الصراع في المنطقة ودخول فواعل من دون الدول، من ضمنهم جماعة الحوثيين في اليمن وهجماتهم المتتالية في البحر الأحمر، فضلاً عن عدد من الإشكاليات، أبرزها:
- عدم اكتمال التوافق القانوني بين الدول المُطلة على المضيق، مما ساهم في تنامي حالة عدم الاستقرار الأمني والتأثير على المصالح الاقتصادية والتجارية للدول المستفيدة من المضيق.
- اضطراب الأوضاع الأمنية في اليمن ومنطقة القرن الإفريقي، العامل الأبرز في التأثير على الأهمية الاستراتيجية لمضيق باب المندب. ويتم استخدام هذا الملف في عدد من الحالات السياسية كورقة تفاوض (مثل: الضغط الاقتصادي)، أو إنهاء الخلافات السياسية.
بالسياق ذاته، تأتي الارتدادات المتباينة لعملية طوفان الأقصى بالنظر إلى التصريحات الحوثية وسلوكياتهم المتباينة في البحر الأحمر ومضيق باب المندب، حيث كثفت الجماعة منذ نوفمبر الماضي هجمات موسّعة على سفن دولية في البحر الأحمر في إطار ما تعتبره دعما لحماس واحتجاجا على الحرب الإسرائيلية في غزة، فضلاً عن مهاجمة السفن الحربية الأمريكية، واختطاف ومهاجمة السفن التجارية المتجهة إلى إسرائيل في البحر الأحمر، عبر استخدام طائرات بدون طيار وصواريخ مضادة للسفن، على نحو ما يزيد من تهديد حركة التجارة العالمية. بالإضافة ما يُشكله ذلك من نافذة لاتساع خريطة الحرب في غزة، وهو ما ينقلنا نحو التساؤل حول المخاوف الدولية والإقليمية على حالة تدفق النفط والحبوب والسلع الاستهلاكية عبر مضيق باب المندب والبحر الأحمر، مما دفع بالعديد من الدول لإصدار بيانات منددة بذلك الأمر. فعلى سبيل المثال: أصدرت العديد من الدول بيانات مشتركة تدين هجمات الحوثيين على السفن التجارية في البحر الأحمر، تأسيساً على الرفض التام لتلك الممارسات الحوثية بالبحر الأحمر والذي عبرت عنه 44 دولة من أنحاء العالم في 19 ديسمبر 2023، وكذلك البيان الصادر عن مجلس الأمن الدولي في الأول من ديسمبر 2023 في هذا الشأن . كما أنّ الولايات المتحدة كانت قد أطلقت عملية "حارس الازدهار" في يوم 19 ديسمبر 2023، وهي مبادرة أمنية متعددة الجنسيات، تضم 10 دول، بغية تهدئة الوضع وحماية الملاحة البحرية في البحر الأحمر على نحو ما يُعرف بـ "عسكرة البحر الأحمر".
ارتدادات قائمة
ثمّة عدداً من الارتدادات التي تُحيط بالمشهد التفاعلي لبيئة البحر الأحمر وانعكاسها بشكل مباشر على حالة التجارة الدولية ومستقبل النظام الأمني ببيئة البحر الأحمر ككل، وذلك على النحو التالي:
- عسكرة الممرات البحرية: وذلك بالنظر إلى اتساع مجال الاضطرابات الأمنية، حيث انعكست الارتدادات المتباينة لعملية "طوفان الأقصى" وما يليها من عملية "السيوف الحديدية" واتساع نطاق الهجمات الإسرائيلية شمالاً وجنوباً، على عدم الاستقرار في سلاسل الاقتصاد العالمي الذي يعاني بالفعل من توترات جيوسياسية متصاعدة، فضلاً عن التعافي الحرج من ارتدادات جائحة "كوفيد-19" وتداعيات الحرب الروسية الأوكرانية على ملفي الطاقة والغذاء. وذلك قياساً على تضاعف المخاوف المرتبطة بحالة عدم الاستقرار مع الهجمات التي تشنها جماعة الحوثيين اليمنية، مستهدفة حركة الشحن الحيوية بمضيق "باب المندب" في البحر الأحمر، وهو ما يعد امتداداً لتصاعد الصراع واتساع الجبهات بين إسرائيل وحماس.
- الانتقال لـ "اقتصاد الأزمات": أحد أهم الانعكاسات المتباينة لحالة التصعيد العسكري بالبحر الأحمر ما يتعلق بتراجع معدلات الأداء الاقتصادي بالمنطقة، خاصة بدول الجوار المباشر، إذ من المُرجح أن تتضرر عدداً من الدول العربية ودول شرق إفريقيا نتيجة لتراجع حركة الملاحة البحرية بما يُضفي مزيداً من الأعباء، وذلك في ظل تباطؤ التعافي الحرج للاقتصاديات الناشئة بتلك المنطقة جراء العديد من الأزمات التقليدية وغير التقليدية بتفاعلات النظام الدولي.
- ارتفاع أسعار الشحن عالمياً: أدت حالة "اللايقين" التي أفرزتها الهجمات الحوثية على سفن الشحن التجارية القادمة من مناطق مختلفة في مضيق باب المندب على الطرف الجنوبي من البحر الأحمر، إلى ارتفاع أسعار الشحن والتأمين مع استدارة الكثير من حركة المرور البحرية إلى طريق "رأس الرجاء الصالح" الأطول والأكثر تكلفة حول إفريقيا، بما يزيد من أوجه الاضطراب بمجالات الاقتصاد الحيوي عالمياً.
- تنامي ظاهرة "سلاسل الظل": ترتبط تلك الفرضية بحالة الفواعل من دون الدول، وفي مقدمتهم جماعة الحوثيين، وذلك بالنظر إلى حجم تأثيرهم على حركة الملاحة العالمية – جنباً إلى جنب – مع عدد من الدول الفرعية مثل أذربيجان وفنزويلا الساعية لإعادة تشكيل النظام الاقتصادي العالمي نحو التعددية، عبر التأثير المباشر وغير المباشر على حركة سلاسل التوريد العالمية، واستنباط سلاسل موازية في ظل تنامي حالة التشتت وعدم اليقين الجيوسياسي بالمنطقة.
- استعادة نمط "الحمائية التجارية": تُبنى تلك النقطة على واقع الانتخابات القائمة بالكتلة الغربية والولايات المتحدة الأمريكية، وذلك في ظل تنامي حظوظ التيارات القومية اليمنية والشعبوية وما يتبعها من أجندة خارجية واقتصادية أكثر ميلاً نحو التشدد في أطر التجارة الخارجية والاستثمار الأجنبي المباشر، على نحو يُعيد التعريف بمرحلة جديدة من "الحمائية التجارية" تؤسس لها حقيقــة اقتصاديــة مفادهــا أنــه فــي أوقـات الأزمـات الكبـرى ســرعان مــا تتغيــر توجهــات الحكومــات، فتصبح أكثر إعراضاً عـن تحريـر التجـارة وأكثر تفضيلاً للحمائيـة التجاريـة. فعلى سبيل المثال: يدفع المُرشح الأمريكي الجمهوري المُحتمل "دونالد ترامب" بسياسات "الحمائية التجارية"، وتحدث عن اقتراح فرض تعريفة بنسبة 10% على جميع السلع القادمة إلى الولايات المتحدة، على نحو ما قد يُعيد إنتاج النزاع التجاري الأمريكي – الصيني، ولكن على خريطة اقتصادية أكثر اتساعاً عالمياً في ظل الحديث عن الضوابط التنظيمية الجديدة، الحواجز التجارية، التلاعب بالإغراق، ...إلى آخره .
- غموض مستقبل مشاريع "الممرات الاقتصادية": إذ من المُرجح إعادة النظر مرة أخرى في المشروعات التنموية والاقتصادية ذات التشابكات الإقليمية والدولية بالنظر إلى حجم التفاعلات العسكرية بالبحر الأحمر، وفي مقدمتها مشروع "الممر الاقتصادي الهندي"، نتيجة لتراجع نشاط ميناء إيلات، فعلى سبيل المثال: وفقاً لتصريحات الرئيس التنفيذي لميناء إيلات الإسرائيلي، فإن نشاط الميناء قد شهد انخفاضاً بنسبة 85% ، منذ أن كثّف الحوثيون في اليمن هجماتهم على السفن في البحر الأحمر كرد فعل لحالة طوافان الأقصى ودعماً لحركة حماس.
- الاضطرابات الملاحية بقناة السويس: ستسهم الهجمات الحوثية في البحر الأحمر في اضطراب حركة الملاحة البحرية في قناة السويس، والتي تُشكّل حوالي 12% من التجارة العالمية المنقولة بحرًا، بما في ذلك مرور 30% من حركة الحاويات العالمية . ومن ثم، سيُحدث انتقال شركات الشحن إلى الطرق البرية البديلة (مثل: طريق السكك الحديدية عبر العبور بروسيا، أو من خلال طريق رأس الرجاء الصالح)، آثاراً اقتصادية سيئة أولها ارتفاع محتمل في الأسعار نتيجة لطول المسافة واستهلاك مزيد من المخصصات النفطية ومشتقاتها للتشغيل، وكذلك ارتفاع تكلفة تأمين الشحنات، والتأخيرات التي قد تصيب سلاسل التوريد العالمية. فضلاً عن إشكالية نقل البضائع ذات مدة الصلاحية القصيرة إذا تم الاستدارة إلى طرق النقل البديلة الأطول حال خشيت السفن المرور عبر قناة السويس. فإن شحنات السلع القابلة للتلف، بما في ذلك منتجات الألبان، قد لا تكون قادرة على تحمل الطرق الأطول، ما قد يترتب عليه انخفاض حجم الصادرات من تلك السلع عالميًا.
سيناريوهات مُحتملة
بالنظر لتصاعد الأحداث في الأراضي الفلسطينية، والتحركات الموازية لاتساع الجبهات الصراعية - خاصة تحرّكات حزب الله في جنوب لبنان، وجماعة الحوثيين في البحر الأحمر- دعماً لحركة المقاومة الإسلامية حماس؛ واتساقاً مع نظرية "وحدة الساحات" التي أسس لها طوفان الأقصى، تأتي زيارة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، ومسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، إلى الشرق الأوسط، لبحث تطورات الأوضاع في غزة، وارتداداتها المتباينة على كافة الملفات الأمنية وفي مقدمتها "أمن الممرات البحرية وحركة التجارة العالمية"، على نحو ما قد يفرض عدداً من السيناريوهات المُحتملة، أبرزها:
- السيناريو الأول – استمرار التصعيد: تُبنى تلك الفرضية على استمرار الهجمات الحوثية بالبحر الأحمر، وما لها من ارتدادات متباينة على تقليص حركة التجارة العالمية، وسلاسل التوريد العالمية، وأمن الطاقة، وأمن الغذاء، إلى آخره.
- السيناريو الثاني – تقويض التصعيد: تُبنى تلك الفرضية على عدد من المحددات، أبرزها، أولاً: التعويل على عملية "حارس الازدهار" في تقويض نشاط الحوثيين بالمنطقة، وثانياً: عدم جاهزية جماعة الحوثيين لوجستياً للسيطرة على حركة السير بالبحر الأحمر، إذ يعتمدون على إطلاق النيران والهجمات من خلال طائرات هليكوبتر، دون امتلاكهم سفناً حربية رسمية تمكنهم من إطالة حالة الاضطراب بمنطقة البحر الأحمر.
- السيناريو الثالث- اللاحسم بالتصعيد: تُبنى تلك الفرضية على استمرار حالة السجال بين جماعة الحوثيين وتحالف "حارس الازدهار"، دون محاصرة أياً منهم للآخر بالمجال الحيوي للبحر الأحمر، وهو ما قد يضفي مزيداً من التوتر العسكري بالمنطقة، وينعكس بشكل مباشر على احتمالات توقف حركة التجارة العالمية والاستدارة نحو طرق النقل البديلة ذات المخاطر الأمنية المتباينة على مستقبل التجارة العالمية.