14-06-2020 الساعة 5 مساءً بتوقيت عدن
سوث24| جادالله الجباعي
ما كادت ركائز حصون الاستبداد تتخلخل، وتتراخى أوتار ثالوث حصنه الأول، الدين والجنس والسياسة، بفعل تضحيات المعذبين والمقهورين، وتزايد حالة الوعي الذي كان يصبّ في سلة الخبرة الإنسانية، والتراكم الكمي لكفاح قوى التغيير في العالم والذي مكن البشرية من إرساء أسس نظام يحترم إنسانية الإنسان ويصون حقوقه ويعلي من شأنه، رغم كل ما يعتريه من عيوب ونواقص، حتى اصطدم هذا الجهد بثالوث استبداد آخر يشد أوتار الثالوث الأول ويعضدها. وهو ثالوث قديم جديد أو متجدد، محلي وعالمي في آن واحد، إنه ثالوث الطائفية والتكفير والإرهاب.
يحاول سلامة تفكيك مفاهيم ثالوث؛ الطائفية والتكفير والإرهاب، بمنهجية علمية رصينة تقوم على الاستقصاء التاريخي لجذور تلك الظواهر
ولمّا كان هذا الثالوث اليوم ذا بصمة إٍسلامية واضحة، أكثر مما كان في أي وقت مضى بعد صعود تيارات الإسلام السياسي في العصر الحديث وازدياد تغلغلها في الاجتماع والسياسة، فقد جعل الباحث عبدالغني سلامة من كتابه "كيف يصنعون الظلام؟" محاولة لتفكيك مفاهيم هذا الثالوث بمنهجية علمية رصينة تقوم على الاستقصاء التاريخي والسوسيولوجي لجذور تلك الظواهر الثلاث، والوقوف على أسبابها وأشكال تمظهرها في الواقع المحلي والعالمي، ورصد مخاطر نتائجها المحتملة، جاعلاً من المقدمة التي تقوم على الربط بين الثالوثين كمدخل لمحاولة فهم الإسلام السياسي قبل التفصيل في ثالوث أركانه: الطائفية والتكفير والإرهاب، التي يضعها محط التحليل والدرس.
نشأة الإسلام السياسي
يشير الباحث سلامة إلى أنّ الإسلام السياسي ليس جديداً إنما يمتد تاريخه إلى عصر الفتنة وظهور الخوارج "كما أنّه ليس تهمة لأحد أو انتقاص من شأنه، إنما هو توصيف للجماعات والأحزاب الدينية التي تعمل في المجال السياسي، والتي هدفها المعلن أو الخفي هو الوثوب إلى السلطة. ولتمييز الإسلام كدين عن الأحزاب التي تعمل تحت غطاء هذا الدين؛ وذلك بغية التفريق بين الدين كدعوة وهدى للعالمين، وبين توظيفه السياسي من قبل تلك الأحزاب التي تتستر بغطاء الدين وتسعى لتحقيق أهدافها بالتكفير والتفجير وتشويه الآخرين".
يرى سلامة أنّ جميع تيارات الإسلام السياسي تسعى إلى السلطة الثيوقراطية وأسلمة المجتمع بغض النظر عن أسلوبها
ولم يفت الكاتب أن يميز بين الأحزاب السياسية القائمة على أساس الدين والتي تؤمن بالحوار وقبول الاختلاف وحقائق العصر السياسية، ويقرّ بمشروعيتها السياسية، وبين تلك التي "تؤمن بالعنف منهجاً والقتل وسيلة والتكفير أسلوباً من منطق الاستبداد والقمع" واحتكار الحقيقة؛ حيث أصبح مصطلح الإسلام السياسي أو الأصولية أو الجهادية وصفاً يعني تلك التنظيمات مباشرة، بغضّ النظر عن مصدر الوصف.
وفي حين يعد الإسلام السياسي ظاهرة حديثة، لا يتعدى تاريخ نشأتها تاريخ انهيار السلطنة العثمانية وانتهاء الخلافة الإسلامية في أبعد تقدير، فقد اعتبر الكاتب انطلاقتها في النصف الثاني من القرن العشرين؛ إذ ارتبطت ملابسات نشأتها بتلك المرحلة؛ حيث الهزائم المتوالية أمام العدو الخارجي، الأمريكي والإسرائيلي بشكل خاص، واختلال التوازن العالمي بعد انهيار دول المنظومة الاشتراكية، وانتكاس مشاريع النهضة والتحديث، وتحول مشروع التوحيد القومي العربي إلى إقطاعيات عسكرية ذات طابع تسلطي وعنفي وقمعي، وهو ما أفضى إلى تقهقر قوى اليسار الديمقراطي وأتاح لتنظيمات الإسلام السياسي أن تملأ هذا الفراغ مسترشدة بالتجربة الإسلامية الإيرانية ومستفيدة من دعمها. الأمر الذي دفع بتلك التنظيمات التي ابتدأت كحركات سياسية اجتماعية تعاني القهر وتكابد الظلم، نحو الغرق في دوامة العنف، بعد انسداد الأفق السياسي وغياب الأمل وانعدام فرص التغيير بالطرق السلمية.
ولا يخفى أنّ الرافد البشري لتك الأحزاب والوسط الاجتماعي الذي نشأت ضمنه؛ هو وسط الشباب المهمش، والبيئات الريفية الفقيرة الجاهلة ونصف المتعلمة، بالإضافة لفكر قادتها الذي كان فكراً مغترباً موتوراً، خرج من قهر المعتقلات وقسوة السجون ثم أصبح ذا ارتباطات أيديولوجية وعقائدية "عابرة للحدود ومتناقضة مع القواسم الوطنية الجامعة".
التيارات الدعوية والتكفيرية
وبالرغم من أنّ المؤلف قد ميز في مطلع حديثه بين تيارات الإسلام السياسي الدعوية، وأحزابه وحركاته الجهادية والتكفيرية، لكنه خلص إلى استنتاج أنّ جميع هذه التيارات تسعى إلى السلطة الثيوقراطية وأسلمة المجتمع، بغض النظر عن أسلوبها، سواء كان يعتمد الانقلاب، أو العمل الدعوي السلمي، أو كان بالعنف والتفجير. وعدّها جميعاً مصدر خطر يهدد وحدة المجتمع وكيان الدولة الوطنية ويتناقض مع مشروعها، كما أنّ هذه التيارات لا تقبل الحوار ولا تؤمن بالاختلاف ولا بالديمقراطية، ولو أبدى بعضها مرونة وتسامحاً في بعض المواقف الحادة، وهو تسامح المنة لا المساواة، أو قبول بالأمر الواقع إلى حين، بنوع من البراغماتية السياسية.
يلفت سلامة إلى أن التكفير يقترن بالتعصب والغلو ويخلق حالة من التقوقع على فكرة يتعذر قبول ما سواها ويمهد لممارسة العنف
وهذا ما يرصده سلامة في طائفية هذه التنظيمات، التي تحوّل الطائفة من انتماء اجتماعي طبيعي في مجتمع يقوم على تعدد الانتماءات الأولية الطبيعية، وتنوع تركيبته الاجتماعية، إلى انتماء سياسي هووي ذي طابع أيديولوجي معتقدي، تعتمده كمبدأ سياسي للتمييز والتفضيل بينها وبين الطوائف الأخرى، فيصبح الولاء للطائفة عندها مقدماً على الولاء للوطن. وهو ما يبرز جلياً في تشكيل المليشيات الطائفية التي تنسف مبدأ المواطنة والمساواة وتترك المجال مفتوحاً لاستقدام التدخلات الخارجية، التي لم يتورع الكثير من هذه التنظيمات بالتواطؤ معها.
فالطائفية عبارة عن فكر وفعل انفصالي مهما ادعت غير ذلك، وهي من أجل تبرير الانفصال تدّعي العودة إلى أصول العقيدة الصحيحة، فيما تعمل وتسعى في الحقيقة إلى تشويه وتحريف صورة هذا الدين فضلاً عن تدمير المجتمع المدني نفسه، وتعطيل القانون العام، وتحويل أجهزة الدولة إلى أدوات خاصة بها.
فهل استطاع "الإسلام" أن يوحد خطاب الأحزاب الإسلاموية نفسها على اختلاف مذاهبها وتوجهاتها قبل أن يدمج قوى المجتمع المختلفة في إطار الوحدة الوطنية؟ وهل هناك حزب إسلامي يقبل في صفوفه من هم من خارج طائفته؟ ألا تجعل هذه الأحزاب من الطائفية "هياجاً مقدساً باسم إسلام يدعي أنه الصحيح، أو فرقة ناجية موعودة دون غيرها بالجنة وتعبِّد طريق جنتها الموعودة بدماء الآخرين وأشلائهم؟"، وفق المؤلف.
التكفير والإرهاب والخوارج الجدد
يلفت سلامة إلى أنّ التكفير يقترن بالتعصب والغلو ويخلق حالة من التقوقع على فكرة يتعذر قبول ما سواها، وهو ما يمهد إلى ممارسة العنف للدفاع عن تلك الفكرة ومهاجمة خصومها. وهو ليس ظاهرة جديدة في التاريخ البشري ولا يقتصر على الفكر الإسلامي أو الديانات الإبراهيمية التوحيدية وحسب، إلا أنّ ما وصل إليه التكفير في عصر التنظيمات الإسلامية الجديدة قد فاق ما عرفه هذا التاريخ من قبل. وهو ما يدفع لوضع هذه الظاهرة موضع السؤال، والبحث في العقلية التكفيرية عند تلك التنظيمات، كما سبق وأشار المؤلف من قبل إلى الثالوث المغذي لها.
هل استطاع الإسلام أن يوحد خطاب الأحزاب الإسلاموية نفسها على اختلاف مذاهبها وتوجهاتها؟
وإذ يتفق معظم الباحثين على أنّ فكر التكفير قد نشأ عند الخوارج بداية، نتيجة فهمهم الخاص لقضية الإيمان، لكنه عند التحقيق هو موقف سياسي من السلطة والخلافة ونظام الحكم، قبل أن يتحول إلى تنظير فقهي لتبرير الموقف السياسي. وسيجد الباحث دوماً أمامه إشكالية العلاقة بين الديني والسياسي وما بين العقل والنقل. "فمنطق أهل التكفير يقوم على الادعاء بامتلاك العلاقة الحصرية وأحقية امتلاكهم للنص وتفسيره، ولا يجوز لأي إنسان التعامل معه أو فهمه وتفسيره إلا من خلالهم فقط"، وبهذا يضعون أنفسهم في موقع الوصاية على البشرية "القاصرة"، ويكتسب الفقهاء عندهم قداسة لا تقل عن قداسة النص ذاته، ويتعاملون مع العقل "كأنه عقيم أو كائن شيطاني رجيم"، بحسب سلامة.
ومن الطبيعي أن يحول فقهاؤهم النصوص لصالح مشروعهم السياسي، ليكتسب هو أيضاً طابعاً قدسياً من باب قداسة النص نفسه، ويصبح كل من خالف مشروعهم كأنه خالف النص، ويحكمون عليه بالكفر واللعنة والطرد من رحمة الله تعالى، ويبررون قتله وإباحة دمه.
ولعل الأخطر في الأمر هو اعتماد الخطاب التكفيري على الثقافة الشفوية السطحية سهلة التلقي، والتي تخاطب العواطف وتهيج الغرائز وتستقطب الفقراء والجهلة والمهمشين وتجعل منهم أدوات قتل، وتجند منهم جيوشاً من الانتحاريين، وتجعل من قتل المُكَفّرين طريقاً للقاء الحور العين، ويجعل هذا الخطاب التكفير أيديولوجيا سياسية مقنَّعة بلبوس ديني، يقوم على مبدأ الولاء والبراء، ويقسم الناس إلى فسطاط خير وفسطاط شر، ويقسم العالم إلى دار جاهلية ودار إسلام، وبذلك يصبح إرهاباً صريحاً يبرر خرق دساتير الدول وقتل المدنيين بذريعة "التتريس" واستباحة دمهم وأملاكهم لتحقيق مصالح "جهادية" معينة.
فالتتريس، وفق المؤلف "من المفاهيم التي تعتمد عليها الجماعات الأصولية في تبرير قتل المدنيين الذين يروحون ضحايا التفجيرات العشوائية. وهذا السلوك قاد إلى استجرار التدخلات الخارجية المباشرة في شؤون الدول العربية والإسلامية من قبل الدول الإقليمية، ودول القرار الفاعلة في المعادلة الدولية، وأمريكا بشكل خاص، التي باتت تشن حروبها تحت شعار مكافحة الإرهاب وتتخذ من المسلمين غولاً جديداً بعد غياب الغول الشيوعي وتفرّدها بزعامة العالم الأحادي القطب. فقد بات مصطلح الإرهاب الملتبس التعريف حتى الآن يحتل المرتبة الأولى بين المفاهيم الفكرية والسياسية في الآونة الأخيرة".
يخلص عبد الغني سلامة بعد تحليله الطويل، الذي أغناه بشواهد متعددة من المواقف والوقائع والتاريخ إلى القول: "إنّ الفهم الخاطئ للإسلام واستبداله بأيديولوجيا متشنجة ليس لها من مشروع سوى الموت.. سيؤدي إلى تشويه الإسلام وجعله في معاداة البشرية برمتها، بوجودها ومنجزاتها ومستقبلها، وسيتحول تدريجياً إلى مرجعيات دينية لاهوتية تنتج الانتحاريين وتهدد السلم العالمي ككل"؛ "فثقافة الموت" هي التي تُعّد الانتحاريين الذين جفت في نفوسهم رغبة الحياة وسيطر عليهم اليأس وتمنيهم بالخلاص الأخروي، وتواسي يأسهم وتداعب عواطفهم بأماني غيبية تسول لهم سهولة الموت وسهولة قتل الآخرين.
- المصدر الأصلي: موقع حفريات للكاتب والباحث السوري (جادالله الجباعي)
قبل 9 أيام